الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

صبرت كثيرًا على أذى والديّ ولم أعد أطيق الصبر، فماذا أفعل؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بارك الله فيكم، لدي مشكلة كبيرة تعيق سيري في حياتي وسيري إلى الله، أسأل الله ثم أنتم أن أُرشد وأُهدى إلى الصواب فيها.

مشكلتي أنني تعرّضت للأذى من والديّ؛ فأنا شاب منَّ الله عليّ بفضل عظيم، فهداني وأصلح حالي، فأصبحت ملتزمًا بالصلاة، مواظبًا على تلاوة القرآن، وطالبًا للعلم.

ورغم توفيق الله لي في بترك الكثيرٍ من المعاصي، وابتعادي عن كثيرٍ من المآسي، إلا إنني واجهت مشكلة عويصة مع والديّ، تتمثل في أذاهما المستمر لي، سواء في الماضي أو الحاضر.

كلماتهما كالسكاكين تمزقني، ولا سيما أمي؛ فلم يسلم أحدٌ من إخوتي من أذاها اللفظي ولسانها الحاد، حتى أختي التي تُعَدّ الأقرب إليها، كثيرًا ما ينفد صبرها، فتنقلب عليها بسبب جحودها المستمر لجهودها.

أما أبي فهو رجل مهمل بخيل مستهتر، ينتظر منا أن نكون أبناء نُفاخر به، وأن نصبح أشخاصًا عظماء، مع أنه لم يبذل أدنى جهدٍ في سبيل ذلك، ولو زال فضله المادي، لزال وجوده كأب!

لقد صبرتُ عليهما، وصابرت كثيرًا، وجاهدت جهادًا عظيمًا، لكن لكل شيء حدود. أُحاول برّهما، لكن بيني وبين ذلك أميال طويلة، وأشواك هما زرعوها ليُصعّبا عليّ هذا الطريق، وما أصابني في صغري لا يزال يلاحقني إلى يومنا هذا؛ فقد انتكست فطرتي، فأصبحت مهووسًا بالرجال، وتدمّرت ثقتي، فصرتُ خائفًا من كل حال، وانقلب عقلي، فبات يبحث عن الكمال.

هذا وسواسٌ قهري، وذاك تعلّقٌ مرضي، وذاك إدمانٌ عارض، وهذا، وهذا... ولا تزال القائمة طويلة. أُصاب بالمشاكل فأسكت، وأتعرّض للتنمّر فأصمت، ثم أعاتب نفسي وأكبت مشاعري كما قلت، ولا تزال آثار الماضي تلاحقني حتى يومي هذا، وتُعيق سيري.

حاولتُ قدر الإمكان إصلاح نفسي، لكن نار الحقد تتأجج في داخلي، ويجاهدها زمهريرُ الطاعة الإلهي؛ فهما في حربٍ طاحنة، لعلّ أحدهما يغلب.

فأرشدوني من فضلكم.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ سيف الدين حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أولًا: قبل كل شيء، وقبل الدخول في تفاصيل حل مشكلتك، أوصيك -وأنت كما ذكرت صاحب صلاة واستقامة وعبادة وطلب علم- بوالديك برًا وخيرًا، لأنه ليس من اللائق أن تقول عن أمك الغالية عليك أن لسانها حاد، وكذلك قلت عنها كثيرة الجحود، وكذلك ما قلته عن والدك الغالي عليك، بأنه مهمل وبخيل ومستهتر، وهذه ألفاظ قلتها عن والديك أثناء حديثك عنهما في رسالتك، فليس هذا من البر، بل هذا من العقوق.

وقد نهى الله تعالى أن تقول للوالدين أف، كما قال تعالى: {ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما}، فقد نهى الله تعالى عن القول والفعل السيئين تجاه الوالدين، حتى نهى عن القول السيء وأدناها كلمة أف، فليس هذا من البر، فالألفاظ التي ذكرتها عن والديك أشد من كلمة أف، وقد أمرنا الله تعالى ببر الوالدين، قال تعالى: {وبالوالدين إحسانًا}، وقال القرطبي: "الإحسان إلى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال أمرهما، وإزالة الرق عنهما وترك السلطنة عليهما".

والأحاديث النبوية كثيرة في هذا الباب، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، ثم من؟ قال: أمك؟ قال ثم من؟ قال: أبوك" [متفق عليه].

- وكذلك حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أقبل رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد ابتغي الأجر من الله تعالى، قال: فهل لك من والديك أحد حي، قال: نعم، بل كلاهما، قال: فتبتغي الأجر من الله تعالى؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما" [متفق عليه].

- وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رضا الرب في رضا الوالدين، وسخط الرب في سخط الوالدين" [رواه الترمذي].

ثانيًا: أنت لا تزال في ريعان شبابك، فاصبر على والديك ولو ظلماك، أو أسمعاك كلامًا يحزنك، فبر الوالدين ليس متعلقًا بالإحسان إليك، بل بمجرد كونهما والديك، لا بد من البر بهما، والصبر على إساءتهما، وان صدر منهما ذلك، حتى والوالدين في حال الكفر، فقد أمر الله تعالى ببرهما، قال تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفًا}، فجاهد نفسك في الصبر على الوالدين، تنال الخير كله.

ثالثًا: ما أصابك في صغرك، فهذا أمر قد قدره الله عليك، فلا تلم والديك، فبدل أن تتأجج نار الحقد في قلبك -كما ذكرت في الرسالة-، عالج هذه المشكلة، وأزل هذه الأشواك عن طريقك كما ذكرت أيضًا، ويمكنك علاج هذه المشكلة بالآتي:

1- انس الماضي، فلو بقيت تتحسر على الماضي، سيفوتك الحاضر والمستقبل، ولو بقي الانسان ينظر إلى الوراء لن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام.

2- استعن بالله تعالى، واجتهد في إزالة هذه المخاوف من الناس، حاول زيارة الناس في المجالس، ولا سيما الأقارب، حتى تزول عنك المخاوف، وثق بنفسك، وأنك رجل، وارجع إلى فطرتك التي فطرك الله عليها، وابتعد عن وساوس الشيطان، أو ما سميته بالوسواس القهري، ولا تحدث نفسك بالمرض، فيكثر عليك، وإنما أنت رجل لست مريضًا، هكذا حدث نفسك، فإن بعض المرض يبدأ بالوهم، حتى يصير مرضًا جاثمًا على الإنسان، وأهم شيء استعن بالله تعالى، والجأ إليه سبحانه يعافيك من هذه الوساوس القهرية، مع الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.

وفي الختام: أسأل الله تعالى أن يشرح صدرك للبر بوالديك، وأن يعافيك، ويبارك في شبابك وحياتك، اللهم آمين.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً