الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيف يتخلص الإنسان من عقدة المقارنات بينه وبين الغير؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا أعاني منذ طفولتي من مشكلة متكررة مع أهلي، وهي أنهم دائمًا يقارنونني بالآخرين، فعلى سبيل المثال: عندما كنت أحصل على تقدير امتياز، كانوا يقولون لي: "صاحبك تقديره أعلى منك، ونحن نريدك أن تكون الأول" هذا الأسلوب في التربية جعلني أعيش تحت ضغط نفسي مستمر، كما تسبب في أن يعيش كل واحد من إخوتي منعزلًا عن الآخر، دون اهتمام أو ترابط بيننا.

كنت أعود من السفر بعد يوم طويل في عيادات الكلية، أحيانًا من غير إفطار، ومع ذلك لم تكن أمي تحضِّر لي الطعام، وحتى إذا طلبتُ من أختي أن تساعدني وتعدِّ لي شيئًا للأكل كانت ترفض، وهذا كله جعل بيني وبين إخوتي عداوة وجفاء، وجعل البيت مصدرًا لعدم الراحة، بل أفقدني شعوري بالأمان.

وبسبب ذلك تركت المنزل، ومنذ ثلاث سنوات وأنا أعيش وحدي، لكن -مع الأسف- حتى في اتصالاتهم بي لا يتوقف أهلي عن أسلوب المقارنات؛ ممَّا سبَّب لي تعبًا نفسيًا، وحالة من الهم الدائم، ورغم كل هذا، ما زلتُ أزورهم مرة أو مرتين في الأسبوع، حتى لا أقطع صلتي بهم، ومؤخرًا صرت أتساءل:

• هل من الصحيح أن أقارن نفسي دائمًا بمن هو أعلم أو أذكى، أو أعلى مني في الدرجات؟
• وهل قيمة الإنسان عند الله تُقاس بالعلم، أو بالمال، أو بالتفوق الدراسي؟

أنا في النهاية لا أهتم كثيرًا بالمال أو بالمظاهر، بل أريد أن يكون مقامي عند الله عظيمًا، ولذلك أسأل:
• ما هو أفضل عمل أتقرب به إلى الله؟ هل هو طلب العلم؟ وإن كان العلم، فهل المقصود به العلم الشرعي أم علوم الدنيا؟ أم أن العبادة هي الطريق الأقرب لرفعة المقام عند الله؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ عبد الله حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أخي الكريم، أسأل المولى تعالى أن يشرح صدرك، ويرفع قدرك عنده، وأن يجعل ما أصابك رفعة لك وكفارة لذنوبك.

ما ذكرته من تجارب مؤلمة في طفولتك وشبابك، أمر نتفهمه تمامًا، فالمقارنات المستمرة والضغط النفسي، قد تترك جرحًا عميقًا في النفس، وتجعل البيت مصدر قلق، بدل أن يكون مأوى أمانٍ وطمأنينةٍ، وكم من شخص مرَّ بهذه التجربة، فأحدثت في نفسه شرخًا عميقًا، وأخذ وقتًا كبيرًا في التعافي من آثاره.

لكن يُحمد لك -أخي الكريم- جميل صبرك، واستمرارك في زيارة أهلك، رغم كل ما تجد، وهو باب عظيم من الأجر، أنت مأجور عليه -بإذن الله- على كل خطوة تقدمها لبرّهم والإحسان إليهم؛ ولذا قال الله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت:8] والوصية بالوالدين جاءت حتى مع وجود المشقة، فكيف إذا احتسبت ذلك عند الله تعالى وصبرت على أذاهم؟ ولهذا قال النبي ﷺ مبيّنًا عِظم هذا البرّ: «لَيْسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِئ، وَلكِنَّ الوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا» [رواه البخاري]، فصلة الرحم في حقيقتها عبادة خالصة لله، لا مجرد مكافأة للناس، وهذا الذي أراه جليًا في موقفك وصبرك.

دعني الآن أضع بين يديك بعض التوضيحات والتوجيهات العملية، التي تعينك على تجاوز هذه الإشكالية:

• أولًا: قيمة الإنسان لا تقاس بالمظاهر عند الله تعالى، فميزان التفاضل الحقيقي بيّنه الله بقوله: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:13] فمقامك عند الله يعلو بقدر إخلاصك وتقواك، لا بما يقوله الناس من مقارنات، أو بما تحمله من شهادات.

• ثانيًا: المقارنات المبالغ فيها ليست صحية، وقد وجَّهنا النبي ﷺ إلى المنهج الصحيح حين قال: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم» [رواه مسلم] فهذا التوجيه النبوي يحررك من قيود المقارنات المحبطة، ويدعوك أن ترى نعم الله عليك فتشكرها، لا أن تحتقرها بالنظر إلى ما عند غيرك.

• ثالثًا: أفضل عمل تتقرب به إلى الله تعالى: هو ما جمع بين الإخلاص وإتقان العمل، ففي الحديث قال النبي ﷺ: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه» [رواه الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع]، فأنت في مجال الطب، وكل جهد تبذله لخدمة الناس ورفع الألم عنهم يُكتب لك عبادة وأجرًا عظيمًا، إن احتسبت به وجه الله، والعلم النافع يشمل العلم الشرعي الذي يقرّبك إلى الله، وكذلك العلوم الدنيوية التي تنفع الأمة، ثم إني أقترح عليك بعض الخطوات العملية للتعامل مع وضعك الحالي:

• تقوية علاقتك بالله تعالى: حافظ على الصلاة في وقتها، وأذكارك، ووردك اليومي من القرآن، فهي زاد الروح، وسندك في مواجهة ضغوط الحياة.

• تحسين تواصلك مع أهلك: إذا بدأت المقارنات فقل بهدوء: "الحمد لله، أنا راضٍ بما قسمه الله لي وأسعى أن أكون أفضل"، ثم غيّر الموضوع، مع التكرار سيفهمون أنك أصبحت أكثر ثباتًا.

• بناء دعم اجتماعي صحي: أحِط نفسك بأصدقاء صالحين، يذكّرونك بالله ويشجعونك على الخير.
• إبراز قصص نجاحك: اجعل من إنجازاتك المهنية والإنسانية رسائل واضحة، فهذا يغلق باب المقارنات ويثبت ثقتك بنفسك.

• العفو والاحتساب: واحتسب الأجر فيما تواجهه، فقد قال النبي ﷺ: «لَيْسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِئ وَلَكِنَّ الوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا» [رواه البخاري]، ليؤكد أن العطاء الحقيقي هو ما كان لله تعالى.

أخي الحبيب: أنت لست أقل من غيرك، وما تعانيه الآن قد يكون سبباً لرفعة درجتك عند الله، إن صبرت واحتسبت، فلازم الأجر والاحتساب والصبر؛ تظفر خيرًا كثيرًا.

وفقك الله للخير، ودفع عنك كل صنوف الأذى والشرور.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً