الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أتوب ثم أرجع، فهل الإكثار من الحسنات يقلل أثر الذنوب؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا لدي ذنب، وفي كل مرة أتوب منه أعود إليه مرة أخرى، وعلى هذا الحال: أتوب ثم أرجع، وقد تعلّقت بهذا الذنب، وأحاول أن أنقص منه، وأقلّل أثره عن طريق زيادة الأعمال الطيبة والحسنات، مثل: قيام الليل، والانتظام في صلاة الفجر، وقراءة القرآن في قيام الليل، والاستغفار، وقراءة القرآن بعد الفجر، وصلاة الضحى، والأذكار، والتعامل مع الناس بلين، والحرص على عدم اغتيابهم.

لهذا أحاول أن أزيد من الحسنات حتى يضعف الذنب ويقلّ، كما قال الله عزّ وجل: ﴿إِنَّ الْحَسَنَـاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّيِّـئَاتِ﴾، فهل هذا صحيح أم لا؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ ريتال حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

الحمد لله الذي وفقك للتوبة إليه سبحانه وتعالى، وفتح عليك أبواب الطاعات من قراءة القرآن وقيام الليل والاستغفار، وأسأل الله تعالى أن يثبتك على هذا الإقبال الطيب.

وأمَّا ما ذكرتِه من إشكالٍ وسؤالٍ، فجوابه كما يأتي:

‏أولًا: لا شك ولا ريب أن المسلم يجب عليه أن يتوب إلى الله تعالى توبة نصوحًا، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا}، والتوبة النصوح هي الإقلاع عن المعصية والندم عليها، والعزم على عدم العودة إليها.

‏ثانيًا: الإنسان قد يقع مرة أو مرتين في الذنب أو أكثر من ذلك؛ فيجب عليه أن يحدث لكل ذنب توبة، وكلما أحدث ذنبا أحدث له توبة، وفي الحديث يقول النبي ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، فَيَغْفِرُ لهمْ» (رواه مسلم).

وأهم شيء التوبة والاستغفار، وانظري إلى حال رسول الله ﷺ مع كونه قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك يقول ﷺ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلى اللهِ واستغفروه فإنِّي أَتُوبُ في اليَومِ إلَيْهِ مِئَةَ مَرَّةٍ» (رواه مسلم).

وبالنسبة لهذا الذنب، فلم تبيني لنا نوع الذنب؛ لكن عمومًا إن لم تستطيعي تركه جملة واحدة فعلى الأقل قلِّلي منه حتى تتركيه جملة واحدة -إن شاء الله-، وأعانك الله على تركه، واعلمي أن من ترك شيئا لله عوضه الله تعالى خيراً منه.

‏ثالثًا: لا شك ولا ريب أن الإكثار من فعل الطاعات بأنواعها، أنها تكون كفارة للذنوب والمعاصي، وهذه الذنوب والمعاصي تنقسم إلى قسمين: صغيرة وكبيرة؛ فالكبيرة كفارتها تكون بالتوبة النصوح، والصغيرة تكون بالأعمال الصالحة كالصلاة والصيام والحج والدعاء، فقد قال رسول الله ﷺ: «‌الصَّلَوَاتُ ‌الْخَمْسُ، ‌وَالْجُمْعَةُ ‌إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ» (رواه مسلم).

وهكذا الذكر والاستغفار كله مكفرات للسيئات كما ورد في الحديث أن النبي ﷺ قال: «مَنْ سَبَّحَ اللهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، ‌وَحَمِدَ ‌اللهَ ‌ثَلَاثًا ‌وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» (رواه مسلم).

وقال ﷺ: «مَنْ ‌قَالَ: ‌أَسْتَغْفِرُ ‌اللهَ ‌الَّذِي ‌لَا ‌إِلَهَ ‌إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ» (رواه أبو داود والترمذي).

رابعًا: لا تعتمدي على فعل الحسنات مع الاستمرار في المعصية؛ وإنما كلما وقعت في المعصية أحدثي لها توبة نصوح؛ فإن الله يقبل التوبة، وقد قال ﷺ فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عز وجل قَالَ: «أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تبارك وتعالى: ‌أَذْنَبَ ‌عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تبارك وتعالى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تبارك وتعالى: ‌أَذْنَبَ ‌عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ» (رواه مسلم).

خامسًا: اعلمي أن ترك المحظور مقدم على فعل المأمور، كما في الحديث «‌مَا ‌نَهَيْتُكُمْ ‌عَنْهُ ‌فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (رواه مسلم)، مع أن المسألة خلاف بين العلماء في أيهما أفضل ترك المحظور أو فعل المأمور، ورجح البعض ترك المحظور لهذا الحديث.

سادسًا: اعلمي أن طريق التوبة طريق رحمة، لا طريق يأس، وأن الله -سبحانه وتعالى- يفرح بتوبة عبده إذا تاب، ويبدّل السيئات حسنات لمن صدق في رجوعه، وأنه يغفر الذنوب جميعًا، وأنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وأنه قال: {‌يُرِيدُ ‌اللَّهُ ‌لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفًا} [النساء:26-28].

سابعًا: اجتهدي في إصلاح ما مضى، واصبري على مجاهدة نفسك، ولا تيأسي من رحمة الله، فإنَّ رحمةَ الله وسِعَت كلَّ شيء، واستعيني به، وأحسني الظنَّ به، واعملي على تقوية صلتك به، وأكثري من الدعاء، واصدقي في توبتك؛ فإنَّ من صدق مع الله صدقه الله، ومن أقبل عليه بقلبه أقبل الله عليه برحمته وفضله، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].

نسأل الله أن يطهّر قلبك، ويثبّتك على طاعته، ويعينك على ترك الذنب، ويرزقك توبة نصوحًا لا يعقبها رجوع.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً