الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هانت علي بعض المعاصي فارتكبتها.. فماذا أفعل؟

السؤال

السلام عليكم

يا شيخ باختصار: أنا شاب من الله علي بالالتزام، فالتزمت منذ فترة، وأعفيت لحيتي، وحافظت على الصلاة، وبعدت عن ما حرم الله، ولبثت فترة على هذا، ولكن أصابني فتور شديد، أصبحت لا أقوى على هذا، نعم ما زلت أحافظ على الصلاة، -الحمد لله- ولكن أشياء مثلا: غض البصر، وفتنة النساء عموما، فالشيطان يزين لي الموضوع، ويهونه علي.

مثلا منذ فترة قرأت حديثا عن أنه يأتي زمان يقل علماؤه، ويزيد خطباؤه، إذا التزم الإنسان فيه بعشر ما أمر به نجا فأخذت ذلك ذريعة لارتكاب المعاصي، كذلك بعض تفسيرات كلمة "اللمم" قرأتها وتعجبت، وأخشى أن يكون هذا سببا في هوان المعاصي علي فماذا أفعل؟

أرجو الرد على موضوع الحديث، وكلمة اللمم، وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ مصطفي حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،،

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحابته ومن والاه.

بداية نرحب بك -أيها الابن الكريم- ونشكر لك هذا الحرص على الخير، ونسأل الله لك التوفيق والسداد، ولا يخفى على أمثالك أن الإنسان ما ينبغي أن ينظر إلى صغر الخطيئة، ولكن ينبغي أن يتذكر أنه يعصي العظيم، وأنه لا صغيرة مع الإصرار، كما أنه لا كبيرة مع الاستغفار، فإذا أصر الإنسان على الصغائر وتهاون لأن الناس تهاونوا، وقدم التنازلات، فإنه يضع نفسه في مواضع الهلكة.

ولذلك الإنسان ينبغي أن يسير على طريق الخير حتى وإن كان وحده، ولا يستوحش سبيل المتقين، فلا يلتفت إلى ما يفعله الناس، واعلم أن الشيطان لا يدعو الإنسان إلى الفاحشة مباشرة ومرة واحدة، وإنما يدعوه خطوة خطوة، ولذلك قال العظيم سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر}، وقال: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين} فلا تتبع هذه الخطوات، وعد إلى ما كنت عليه من الخير والالتزام، واجتهد في رضا الله تبارك وتعالى، واعلم أن الإنسان الذي يعصي الله تبارك وتعالى يخسر الدنيا والآخرة، فهو لا يجد اللذة في المعصية، ويحرم نفسه من لذة الطاعة، بل يحرم نفسه من رضوان العظيم سبحانه وتعالى.

من هنا فنحن ندعوك إلى أن تُدرك أن تعمّد الذنب وإن كان صغيرًا، هذه مصيبة من المصائب، كما أن الإنسان دائمًا ينبغي أن ينظر - في أمر دينه – إلى من هم أعلى منه، وينظر إلى النصوص الصريحة الصحيحة الواضحة، بل يتأسى برسولنا الذي قام وصلى لله حتى تفطرتْ قدماه، فلما قيل: لماذا وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: (أفلا أكونُ عبدًا شكورًا).

فعُد إلى ما كنت عليه، وابتعد عن مواطن النساء، وغُض بصرك، وإذا جاءك الشيطان وذكرك بهذه الأشياء السالبة فالجأ إلى الله تبارك وتعالى بالدعاء واحتمي به بالاستعاذة من الشيطان، واعلم أن الشيطان ضعيف، وأن كيده ضعيف، فلا تقف طويلاً أمام هذه الوساوس، وتذكر أن همّ هذا العدو أن يُحزن الذين آمنوا، وأن الشيطان لا يريد أن يرانا في طاعة، ولذلك يجتهد في أن يغوينا، وأن يأخذ بأيدينا إلى الضلالة والبعد عن الله تبارك وتعالى.

أكرر: لا تستهن بالمعاصي، ولكن لا بد أن تتذكر أنك تعصي العظيم سبحانه وتعالى، والواحد منا لا يعرف إذا عصى الله بذنب فأخذه الله في حينها ومات عليه، كيف ستكون الخاتمة؟ لذلك المؤمن إذا أذنب يُعجّل بالتوبة، ويعجل بالرجوع إلى الله تبارك وتعالى، ولا يؤجل، فإن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ولا تغتر بحلم الله عليك، فإن الله يُمهل ولا يهمل، لذلك عجل بتوبة نصوح، وتذكر قول الله تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحًا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار}، وتذكر قوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم}، وتذكر قوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين}.

ونحب أن نذكر - ابننا الكريم - أنه لا يُفهم من الآية، ولا يفهم من الحديث هذا التهاون الذي فهمه هذا الشاب من قراءته للحديث الذي صححه الألباني – رحمة الله عليه – من أننا سنكون في زمان يكثر فيه الخطباء، ويقل فيه العلماء، وأن الإنسان لو جاء بالعُشر نجا، فإن الإنسان ينبغي دائمًا أن يأخذ بمعالي الأمور، ولا يجوز للإنسان أن يسوغ لنفسه أخذ هذه الأحاديث مقطوعة من سياقها ولحاقها ومثيلاتها، فإن الإنسان ينبغي أن يجمع الأحاديث ثم يفهمها متحدة مع بعضها، وكذلك الآيات، هذا هو الفهم الصحيح، فالإنسان ينبغي أن يُدرك هذا المعنى، ولا يخوض في فهم الآيات والأحاديث وحده.

كذلك أيضًا ليس من مصلحته أن يهجم على التفسير أو ينظر فيما ورد في بعض الأحاديث دون أن يرجع إلى العلماء لفهمها وشرحها وبيانها.

كذلك مسألة (اللمم) فلا يُفهم من الآية أن الإنسان يتقصد الوقوع في اللمم، ومهما كان تفسير هذا اللمم، سواء كان كما قال بعضهم (ما دون الجماع) أو هو الذنوب الصغيرة والأخطاء – أو كذا – إلى آخر ما قال العلماء في هذه المسألة، فالعلماء لهم تفسير، وحديث أبو هريرة أيضًا (ابن آدم مدرك حظه من الزنا، فالعين تزني) يقول: هذا أشبه تفسير للمم.

لكن الصواب أن اللمم يدخل فيه كل صغائر الذنوب، وقيل: يدخل فيه الذنوب التي ألمَّها الإنسان ثم تاب منها وأناب إلى الله تبارك وتعالى، والإصرار على الصغيرة خطيرة على الإنسان، لأن النار إنما هي مجتمع الحطب، ومعظم النار من مستصغر الشرر، والإنسان لا يبلغ درجة التقوى حتى يدع صغائر الذنوب، ولذلك قال الشاعر:

خل الذنوب صغيرها *** وكبيرها ذاك التُّقى
واصنع كماش فوق *** الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرنَّ صغيرة *** إن الجبال من الحصى

والإنسان دائمًا يطلب معالي الأمور، يتأسى بالكرام، يتأسى بالصحابة، لماذا لا ننظر إلى الذين قيل عنهم: (ما رأيناه يعصي الله لا في ليلٍ ولا في نهار)، عاشوا معه ولم يروه يشتغل بغير طاعة الله، وفي السلف من عاش ستين سنة ما فاتته تكبيرة الإحرام، بل قال أبو حازم: (إذا أذن المؤذن ولم تجدوني في الصف الأول فابحثوا عني في المقابر)، والإسلام دعوة إلى أن يأخذ الإنسان بمعالي الأمور.

وهذه الآيات إنما تُقرأ وتُذكر لمن وقع ويريد التوبة ويرجع إلى الله تبارك وتعالى، وليس فيها ما يدل على التشجيع، بل إن الفتوى تتغير إذا علم العالم أن الإنسان إنما يستفتي ليأخذ الرُّخص، وكذلك عندما يقرأ الإنسان لا ينبغي أن يتتبع مثل هذه الرُّخص، فإن تعمّد الوقوع في الخطأ والبحث عن الرخصة هذا أيضًا أمرٌ من الخطورة بمكان.

وأيضًا الحديث كون العلماء عددهم قليل والخطباء كثير: معنى ذلك دعوة إلى أن يحرص الإنسان على أن يتعلم، وأن يتمسك بعلمه، وليس في ذلك دليل على التهاون، وأن يكتفي الإنسان فقط بعُشر ما أُمر به ليفوز بالنجاة، فإن الإنسان عليه أن يجتهد في أن يأتي بكل ما أُمر به، وبعد ذلك الله تبارك وتعالى يسامحه على القصور لا على التقصير، فنسأل الله أن يتوب علينا وعليكم، وأن يلهمك السداد والرشاد، وننصحك دائمًا عندما تريد أن تفهم مثل هذه الآيات أن تتواصل مع موقعك، وكذلك الأحاديث، حتى لا تستقر عندك مثل هذه التفسيرات التي لم يذهب إليها أحد ولا يمكن أن تُقبل بهذه الطريقة، فيجعل الإنسان فهمه المغلوط لهذه النصوص سببا في التهاون في الطاعات، فاحرص على كل أمر يُرضي الله تبارك وتعالى.

نسأل الله أن يتوب عليك، وأن يعدينا وإياك إلى الحق، هو ولي ذلك والقادر عليه، ونسأل الله لك التوفيق والسداد، وأن يلهمك رشدك، وأن يعيذك من شرور النفس، هو ولي ذلك والقادر عليه.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً