الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مخالطة الأصحاب والصبر عليهم خير من هجرهم ومفارقتهم!

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لي صديق أعتبره خِلي الوفي وأقرب شخص إليّ، فهذا الشخص لم أحصل عليه بسهولة، وانتقيته من بين الكثير من الأصدقاء مع فائق احترامي وتقديري لباقي أصدقائي، فلكل شخص مكانته الخاصة لدي، وهذا الصديق أعتبره كظلي فلا أستطيع مفارقته ولو لليلة واحدة، وكذلك أحس أنه يبادلني نفس الشعور، إلا أنه لم يصارحني بذلك.

مضت الأيام والليالي وتعرفت على بعض أصدقائه، وكلهم من الصالحين والحمد لله، إلا أنه في ذات يوم أخطأ أحدهم في حقي فكتمتها في نفسي، وقللت من المجيء إلى صديقي، لأني في ذلك الوقت لم أصارحه بمكانته في نفسي، ولاحظ هو كذلك قلة مجيئي.

وفي ذات يوم اتصل بي وقال لي: لماذا لم تعد تأتِ كالسابق؟ فقلت له إن أحد أصدقائه بدأ يتضايق من وجودي معه، وصدرت منه كلمة عبرت عن شعوره، ففهم الموضوع وقال لي: إن شئت آتيك به ليعتذر منك، فقلت له: لا أريد أن أرى وجهه ودعها للأيام، وأنا أقول لكم الحق فهذه الكلمة التي قالها جرحت مشاعري، فهو لا يعرفني إلا منذ مدة قليلة، فلماذا يقول عني هذه الكلمة؟! وكرهت هذا الشخص ولم أعد أطيقه، ومضت الأيام كما هي، وفي ليلة تأخر صديقي عني فقمت بالاتصال به فقال لي إنه مع صديقه فلان - الشخص الذي لا أطيقه -، وعندما أكمل حديثه معه أتاني، فلمته وقلت: لماذا هذا الشخص معك ولماذا...؟ ومن شدة غضبي وغيرتي على صديقي خرج مني لفظ وأنا أعترف بأني أخطأت في حقه بلفظ سيئ، فغضب مني صديقي غضباً شديداً، لدرجة أنني شعرت أن لا قيمة لي عنده.

وحاول أحد الأصدقاء أن يتدخل وفشل، ولم يبق شيء إلا وفعلته له لكي يرضى، ولكن لا فائدة.

والآن علاقتي به ليست كسابق عهدها، وأنا الآن أريد مشورتكم، كيف أتعامل مع صديقي وخليلي وأن أطرد هذه الوساوس؟ وماذا أفعل؟ وهل أتصالح مع صديقه وأتنازل عن كرامتي من أجل صديقي؟!

أثابكم الله وعفا عنكم.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ عبد الباسط حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فإن المسلم إذا تضرر من شخص حافظ على الحد الأدنى في الرباط، وحافظ على (شعرة معاوية) كما يقولون، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(لا يكن حبك كلفاً ولا بغضك تلفاً) رواه البخاري في الأدب المفرد، وليس لك مصلحة في محاربة أحد من الناس حتى ولو أخطأ في حقك، وإذا وجد الإنسان في جماعة - والإنسان مدنيٌّ بطبعه - فلابد أن يحتمل ما يأتيه، فبعض الناس قاسٍ في كلماته، وبعضهم لا يحسب للكلمة حسابها ويطلقها دون أن يفكر في آثارها، وبعضهم وبعضهم.. وهكذا، (فالمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم).

ونحن لا ننصحك بمقاطعة أحد، ولا بهجران أحد، فإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام، فكن خير الرجلين، وعامل إخوانك بما تحب أن يعاملوك به، وأدِّ الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك، واحفظ لكل أخ أسراره ومكانته، ولا تدخل علاقته مع هذا في بحر غضبك من الآخر، وعامل كل واحد بما يناسبه، وادفع بالتي هي أحسن، وابحث عن أصدقاء آخرين، فإن الحياة مدرسة يتعلم منها الإنسان الكثير.

وأرجو أن تكون كل هذه الصداقات قائمة على الأسس الشرعية والمعاني الإيمانية، ولا يخفى عليك أن من علامات الصداقة الإيمانية أن لا يتضايق أهلها إذا اتسعت دائرتها، وأن يكون التناصح والتعاون عمادها وعمودها، فإن أخاك أخاك من نصحك في دينك، وبصرك بعيوبك، وهداك إلى مراشدك، وعدوك عدوك من غرك ومنّاك، وقد قيل: (المسلمون نصحة والمنافقون غششة).

والمؤمن يحب سائر الناس ويزيد من محبته لأهل الخير والتقوى، ويكره في العصاة عصيانهم لله، ويحبهم إذا تابوا وأقاموا الصلاة وأصلحوا ما بينهم وبين الله، ونحن نتمنى مراجعة هذه الأسس والتأكيد عليها؛ لأن كل صداقة لا تقوم عليها هي عذاب لأهلها في الدنيا وعداء في الآخرة، قال تعالى: ((الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ))[الزخرف:67]، والمسلم لا يستغني عن الأصدقاء، وقد عرف أهل النار منزلة الصديق فقالوا: ((فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ* وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ))[الشعراء:100-101]، وما أعطي الإنسان بعد الإسلام أفضل من صديق حسن يذكره بالله إذا نسي ويعينه على طاعته لله إن غفل.

فلا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي، وعامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به، واعلم أن حسن الخلق هو بذل الندى وكف الأذى والصبر على الجفاء.

وتذكر أن صداقة الأشرار تُعدي وتؤذي، كما أن صداقة الأخيار تنفع بإذن الله وترفع، وقد صحب كلب أهل الكهف فتية الإيمان فذُكِرَ خيره معهم في القرآن.

وأرجو أن تردد هذا الدعاء وهو: (اللهم حببني إلى خلقك وحبب إليّ الصالحين منهم)، واتق الله في نفسك، وتذكر ما قاله قائل السلف: (ما حدث خلاف بين صديقين أو بين رجل وزوجته إلا بذنب أحدثه أحدهما فاستغفروا ربكم إنه كان غفاراً).

واعلم أن المسلم ينبغي أن يصالح الناس جميعاً، ويجتهد في النصح والتصويب، ولن يكسب أو يستريح من يريد أن يعادي الجميع، ولا بأس من أن يجعل الإنسان لكل علاقة سقفاً محدداً، ونسأل الله أن يسهل الأمور وأن يغفر الذنوب.

وبالله التوفيق والسداد.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً