الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إرشاد وتوجيه في التعامل مع أب أهمل أبناءه وآذى أمهم

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

حين تأملت العقوق كجريمةٍ في حق الوالدين وجدت أنه ما عقك إلا من أحسنت إليه، فما بالكم حين يتخلى الأب عن مسئولياته، ويترك أبناءه وهم في أمس الحاجة إليه، فلا ينفق ولا يشفق، وبعد كل هذا يأتيهم بعد عشرين سنة من الغياب عنهم ليطالبهم بحقوقه كأب، وليظهرهم أمام الآخرين بمظهر العقوق؟!

هذا هو أبي قد تركني وأنا في السادسة من عمري، وأخي في الثانية من عمره، وأختي في الثالثة من عمرها، تركنا ضعافاً صغاراً لاعائل لنا، وظلم أمنا معنا، عشرون سنة ونحن نعاني من القهر والعوز، وهو لم يشغل باله حتى من الناحية المادية، من أين ننفق؟ ومن يتكفل برعايتنا؟ وكان العطف والحنان والإحساس بالأمان أهم من أموال الدنيا.

لقد حرمنا قربه، وكم بكيت في مواقف تمنيت أن يكون أبي بجانبي فيها، وأحسد أقراني على آبائهم الذين يفكرون فيهم، ويسهرون الليالي قلقاً عليهم، والذين ما ادخروا جهداً إلا وبذلوه لهم، وأنا أجد حسرة تلج في كبدي، وحرقة في عيني إلى الآن.

لقد تسبب في انتكاستي في الثانوية العامة، حين أوعز لأحد أقاربه بأنني يجب ألا أُكمل دراستي، وعلي أن أعمل وأعطيه راتبي، ولمَ ذلك؟ لِمَ ذلك وأنا على عتبة الشهادة الثانوية؟ ذلك كله لكي يشبع رغباته ونزواته، ولا داعي لأن أذكر لكم منكرات أبي، غير أنني لا أذكره إلا سكّيراً، وهذا آخر عهدي به.

ولقد رباني جدي لأمي رحمه الله، ولم يجرحني وإخوتي سوى غياب أبي، أبي الذي لم ينفق علي منذ أن كنت في الرابعة من عمري، لم ينفق علي قرشاً واحداً، وكذلك إخوتي، أبي الذي أوجد لدي أماناً مفقوداً أعاني حسراته إلى الآن، أبي الذي صرت أبغضه لظلمه إيانا.

والآن يطالبني وإخوتي بحقوقٍ وأشياء لا أفقهها، ملوحاً بسلاح غضبه علينا، وبأننا عاقون له، ويريد حقه الذي لم يقم بواجبه حتى يناله.

وإنني عاطل عن العمل، ولم تطب نفسي من جرحه إياي وأمي وإخوتي، أفنكون عاقين لشخص لم يأل جهداً ليضرنا ويصغرنا؟! أنكون عاقين لشخص لم ينفق علينا درهماً واحداً، ولم يكن سوى اسم على الأوراق الثبوتية؟! وقد أنهيت الثانوية ولا أعلم عنه ولا عن أهل أبي أدنى شيء، حتى عن طبيعة عمله لا أعلم، ولم أسأل لأن أمي ما فارقتها الدمعة، وذلك لقهره إياها وضربها أمامنا ونحن صغار.

فهذا الرجل الذي يقول الآن: إنه أبي -فقط الآن شعر أنه أبي- أحس بأنني سوف أتوظف ويجب علي أن أعطيه، ووالله! ما عندي مانع أن أعطيه وأن أرسل له إن رزقني الله مالاً، لكنني لا أطيق رؤياه ولا أرغب بها، فقد فات الموعد الذي كنت أحتاجه فيه وانتهى، ولم يعد لشبح الأب الذي كنت أتخيله وأرسم له الصور أي داعٍ.

فهل أكون عاقاً لشخصٍ عقني في صغري وحرمني من كل واجباته؟ وهل أكون عاقا لمن عقّني؟!

أفيدوني وشكراً.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم.
الأخ الفاضل/ محمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فقد أسعدتني رغبتك في مساعدة والدك رغم تقصيره في حقكم، وأرجو أن يعلم الجميع أن التقصير ما ينبغي أن يقابل بمثله؛ لأن الله يجازي كل نفس بحسب سعيها وكسبها، وأرجو أن أسجل إعجابنا بصبر أمكم طول هذه السنوات، وهي بلا شك أولى بتقديركم وعونكم، وكذلك الجد الذي أحسن إليكم وقام بدوره في رعايتكم.

ولست أدري ما هي أسباب ذلك التقصير، ولكنه مع كل ذلك سوف يظل أباً لكم فلا تقصروا في مساعدته إذا كان ذلك ممكناً، وكانت حاجته شديدة للمساعدة.

وأرجو ألا تحزنوا إذا اتهمكم بالعقوق، فإن الله سبحانه هو العليم الخبير وكذلك الناس يعرفون الحقيقة، وإن لم يعرفوا ذلك فلن يضركم شيئاً، فاجعلوا هدفكم رضا الله وسوف يُرضي الناس عنكم؛ لأن القلوب بين أصابعه، ونسأل الله أن يحببكم إلى خلقه وأن يحبب إليكم الصالحين منهم.

فاجتهد في البحث عن العمل، واعقد نيتك على البر والإحسان للجميع، وهذا ما لمسته من خلال كلامك؛ فإن نية المرء خير من عمله، وأرجو أن تعلم أن شريعة الله توجب عليكم احترام هذا الأب، وتوجب عليكم تقدير واحترام الأم، والشفقة عليها وتطييب خاطرها، والاعتراف بتفضلها والحرص على تعويضها عن كل ما فقدته من وفاء الزوج وحبّه، وبشروها بثواب الصابرات عند رب الأرض والسموات.

كما نتمنى أن يفهم الجميع طبيعة هذه الدنيا وكونها جبلت على الكدر والعناء، وأنه لا راحة لأهل الإيمان إلا في جنة أعدها الله للفضلاء، وحبذا لو حاولتم نسيان الماضي رغم مرارته، وحاولتم التقرب من والدكم والنصح له حتى يترك المنكرات، ويؤدى بعض الحقوق التي أضاعها، فإنه سيقف غداً بين يدي الذي يعلم السر وأخفى، وربما كان في بعد الأب المحارب لله المعاند لرسوله خير لكم، فاحمدوا الله على الذي حصل، وأقبلوا عليه عز وجل، وأكثروا من صالح العمل واحتسبوا كل ما يقابلكم من الأسى والألم.

ومرحباً بكم في موقعكم، ونحن لكم في منزلة الخال والعم، وسؤالنا لله أن يتفضل عليكم بالخير والنعم، وأن يذهب عنكم الهم والغم.

وبالله التوفيق والسداد.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً