الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الاستقرارهو أحد المعاني الصحيحة للاستواء على العرش

السؤال

كيف تردون على من أثبت عن أبي حنيفة النعمان أنه قال في كتابه الوصية ضمن مجموعة رسائل أبي حنيفة بتحقيق الكوثري: ونقر بأن الله سبحانه وتعالى على العرش استوى من غير أن يكون له حاجة واستقرار عليه، وهو حافظ على العرش وغير العرش من غير احتياج، فلو كان محتاجا لما قدر على إيجاد العالم وتدبيره كالمخلوقين، ولو كان محتاجا إلى الجلوس والقرار فقبل خلق العرش أين كان الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

ففي صحة نسبة كتاب الوصية للإمام أبي حنيفة خلاف ونظر، فأثبتها طائفة ونفاها آخرون. فممن أثبتها القاضي تقي الدين الغزي في ترجمة الإمام أبي حنيفة، فقال: للإمام الأعظم وصية مشهورة، أوصى بها أصحابه تشتمل على كثير من أصول الدين، نقلها كثير من المؤرخين، يتعين إيرادها هنا، لما اشتملت عليه من صحيح الاعتقاد... (الطبقات السنية في تراجم الحنفية) ثم ذكرها بطولها، ومنها الجمل الواردة في السؤال.

وقال القاضي بدر الدين بن جماعة المولود سنة 639 هـ في كتاب (إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل): قال التابعي الجليل الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى في كتابه الوصية: نقر بأن الله تعالى على العرش استوى من غير أن يكون له حاجة واستقرار عليه، وهو حافظ العرش وغير العرش من غير احتياج. اهـ.

وذكر هذه الجمل باختصار د/ عبد الله بن عبد المحسن التركي، في كتاب (مجمل اعتقاد أئمة السلف) نقلا عن الغزي.

وهذه الوصية مما اعتمد عليه الدكتور محمد بن عبد الرحمن الخميس في بحث موسع له لنيل درجة الدكتوراه في أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله. وكذا في كتابه (اعتقاد الأئمة الأربعة).

ونقل منها جماعة من أهل العلم، منهم علامة الشام الشيخ محمد بهجة البيطار في كتابه (الكوثري وتعليقاته) فقال: وقال ـ يعني الإمام أبا حنيفة ـ في كتاب الوصية (ص10): ونقر بأن الله على العرش استوى. اهـ. وممن نفى صحة نسبة هذا الكتاب، المستشرق غولتزير، فقال: إن نسبة هذا الكتاب إلى أبي حنيفة النعمان خطأ (تاريخ آداب اللغة) لزيدان.

وفي رسالة جامعية بعنوان (براءة الأئمة الأربعة من مسائل المتكلمين المبتدعة) ص 76- 79 للدكتور: عبد العزيز بن أحمد الحميدي. تناول فيه هذه الوصية بالدراسة إسنادا ومحتوى، فأورد إسنادها وقال: إنه مسلسل بالمجاهيل.

ثم قال عن محتواها: في هذا الكتاب مسائل كثيرة مخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة في الاعتقاد بل، ومخالفة لما هو منقول معروف عن الإمام أبي حنيفة. اهـ

ثم أورد أمثلة لهذه المسائل ثم قال: وبعد فقد ظهر أيضاً أن كتاب الوصية متضمن لتقرير العقيدة الأشعرية التي إنما حدثت بعد وفاة الإمام أبي حنيفة بأكثر من قرن ونصف من الزمان، فهذا يؤكد مع سقوط سند الكتاب أيضاً براءة الإمام رحمه الله من هذا الكتاب وما تضمنه من مسائل محدثة، مخالفة لأصول أهل السنة والجماعة.

أما العبارات المنقولة في السؤال من هذه الوصية، فمنها الصواب الموافق لمذهب أهل السنة، كنفي الحاجة عن الله تعالى، قال الطحاوي في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب الإمام أبي حنيفة: والعرش والكرسي حق وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه.

وأهل السنة والجماعة يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله ولا يماثل استواء المخلوقين، وأنه بائن من خلقه، وانظر أدلة ذلك من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة في الفتوى رقم: 6707.

وقد سبق لنا أيضا إيراد مذهب الأمام أبي حنيفة وغيره في إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه، في الفتوى رقم: 66332.

وأما الخطأ في هذه العبارات فهو نفي الاستقرار عن الاستواء، وقد سبق أن ذكرنا في الفتوى رقم: 50216، أن صفة الاستواء لها معنى ثابت وهو العلو والفوقية والاستقرار على الشيء. وراجع لمزيد الفائدة في ذلك الفتاوى ذات الأرقام التالية: 60784، 76111، 7256.

وقد ذكر ابن القيم هذه المعاني الأربعة في نونيته فقال:

فلهم عبارات عليها أربع قد حصلت للفارس الطعان

وهي استقر وقد علا وكذلك ار تفع الذي ما فيه من نكران

وكذاك قد صعد الذي هو رابع..

وقال الشيخ الغنيمان في شرح العقيدة الواسطية: ذكر السلف لمعنى الاستواء ألفاظاً أربعة كلها مترادفة، فقالوا هو: الارتفاع والعلو والصعود والاستقرار، فهذه الألفاظ الأربعة جاءت مروية بأسانيد عن الصحابة وغيرهم، وكلها بمعنىً واحد، وهو الاستواء. اهـ.

بهذا يعلم ما في نفي الاستقرار عن معنى الاستواء من الخطأ.

ثم لابد من التنبه إلى أن كل لازم يُنفَى معنى الاستقرار من أجله، أنه يلزم مثله في لفظ الاستواء نفسه، وفي بقية معانيه من الصعود والارتفاع والعلو.

وقد ذكر شيخ الإسلام في القاعدة الرابعة من الرسالة التدمرية: أن كثيرا من الناس يتوهم في بعض الصفات أنها تماثل صفات المخلوقين ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه فيقع في أربعة أنواع من المحاذير:

أحدها كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل.

الثاني أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطله، بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات.

الثالث أنه ينفي تلك الصفات عن الله عز وجل بغير علم.. الرابع: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الأموات والجمادات أو صفات المعدومات.

ومثال ذلك أن النصوص كلها دلت على وصف الإله بالعلو والفوقية على المخلوقات واستوائه على العرش، فيظن المتوهم أنه إذا وصف بالاستواء على العرش كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام، فيخيل له أنه إذا كان مستويا على العرش كان محتاجا إليه كحاجة المستوي على الفلك والأنعام، فقياس هذا أنه لو عدم العرش لسقط الرب سبحانه وتعالى، ثم يريد بزعمه أن ينفي هذا فيقول: ليس استواؤه بقعود ولا استقرار. ولا يعلم أن مسمى القعود والاستقرار يقال فيه ما يقال في مسمى الاستواء ؛ فإن كانت الحاجة داخلة في ذلك فلا فرق بين الاستواء والقعود والاستقرار، وليس هو بهذا المعنى مستويا ولا مستقرا ولا قاعدا، وإن لم يدخل في مسمى ذلك إلا ما يدخل في مسمى الاستواء فإثبات أحدهما ونفي الآخر تحكم (مجموع الفتاوى 3 / 48 باختصار).

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني