الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

شبهات وجوابها حول رفع عيسى عليه السلام ونزوله في آخر الزمان

السؤال

إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.سورة آل عمران، الآية55.
السؤال : حسب هذا الكلام المسيح مات، لكن في سورة النساء 157 يقول: وما قتلوه وما صلبوه. أيهما الصحيح ؟ ثم يقول إنه جعل الذين اتبعوا المسيح فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. لماذا لم يؤمن به محمد صلى الله عليه وسلم ؟ لماذا لم يدعو الناس إلى الإيمان به وانتهى الأمر؟ لماذا لم يتبعه هو لكي يصبح فوق الذين كفروا ؟ ما هي الحاجة إلى ديانة جديدة وتعليم جديد ؟ ألا تحتاج هذه الأسئلة إلى جواب؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإن ما ذكره الله تعالى في الآية الواردة في سؤال السائل وهي قوله سبحانه: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا.{النساء:157} يؤكد نفي قتل عيسى عليه الصلاة والسلام الذي زعمه اليهود وأقرهم عليه المنحرفون عقلا ومعتقدا من المدعين للنصرانية، فالذين زعموا أن عيسى قد مات، قالوا إنه لا سبب لذلك الموت، إلا أن اليهود قتلوه وصلبوه، فإذا تحقق نفي هذا السبب وقطعهم أنه لم يمت بسبب غيره، تحققنا أنه لم يمت أصلا، وذلك السبب الذي زعموه، منفي يقينا بلا شك، لأن الله جل وعلا قال: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ. {النساء:157} . وقال تعالى : وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ. {النساء:158}. كما قال الشيخ الأمين الشنقيطي في الأضواء:

فقد نفى الله تعالى قتل عيسى فقال عز من قائل: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم. فقد جزم القرآن الكريم بأن عيسى عليه السلام لم يقتل كما زعم اليهود والنصارى ، بل رفعه الله تعالى إليه ، كما قال تعالى : ... وما قتلوه يقينا ، بل رفعه الله إليه..

وهذا لا يعارض قوله تعالى: إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون. [آل عمران: 55].

وذلك أنه لم يرد في الآية نص يدل على موت عيسى عليه السلام الموتة النهائية، بل لم يأت فيها الموت الذي ذكر السائل وإنما الذي ورد لفظ التوفي، وهو لا ينحصر معناه في الموت، بل يحتمل معاني أخرى منها التوفي بمعنى أخذ الشيء وقبضه يقال توفى دينه: أخذه كاملا، فيكون المراد أنه قبضه الله ورفعه إليه. فقد جاء في تفسير القرطبي في معنى قوله تعالى: متوفيك.ما يلي: وقال الحسن وابن جريج: معنى متوفيك قابضك ورافعك إلى السماء من غير موت، مثل توفيت مالي من فلان أي قبضته.. وقال ابن زيد : متوفيك قابضك، ومتوفيك ورافعك واحد ولم يمت بعد. والصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم كما قال الحسن ابن زيد ، وهو اختيار الطبري، وهو الصحيح عن ابن عباس . اهـ

وقال الإمام ابن تيمية ردا على من ادعى موته: فهذا دليل على أنه لم يعن بذلك الموت ‏إذ لو أراد بذلك الموت، لكان عيسى في ذلك كسائر المؤمنين، فإن الله يقبض أرواحهم ‏ويعرج بها إلى السماء، فعلم أن ليس في ذلك خاصية، وكذلك قوله: ومطهرك من الذين ‏كفروا. ولو كانت قد فارقت روحه جسده، لكان بدنه في الأرض كبدن سائر الأنبياء، أو ‏غيره من الأنبياء.‏

وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين ‏اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله ‏إليه. يبين أنه رفع بدنه وروحه، كما ثبت في الصحيح أنه ينزل ببدنه وروحه، إذا لو أريد ‏موته لقال: وما قتلوه وما صلبوه بل مات.

ولهذا قال من قال من العلماء: إني متوفيك، أي قابضك أي: قابض روحك وبدنك، ‏يقال: توفيت الحساب واستوفيته.‏

ولفظ التوفي لا يقتضي نفسه توفي الروح والبدن، ولا توفيهما جميعا إلا بقرينة منفصلة، ‏وقد يراد به توفي النوم، كقوله تعالى: الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في ‏منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك ‏لآيات لقوم يتفكرون. [الزمر:42]‏. انتهى.

وقال الشيخ الأمين الشنقيطي في أضواء البيان : دلالة قوله تعالى: متوفيك. على موت عيسى فعلا، منفية من أربعة أوجه: أولها أن: متوفيك. حقيقة لغوية في أخذه بروحه وجسمه .

الثاني : أن متوفيك. وصف محتمل للحال والاستقبال والماضي، ولا دليل في الآية على أن ذلك التوفي قد وقع ومضى بل السنة المتواترة والقرآن دالان على خلاف ذلك.

الثالث : أنه توفي نوم، وقد ذكرنا الآيات الدالة على أن النوم يطلق عليه الوفاة، فكل من النوم والموت، يصدق عليه اسم التوف ، وهما مشتركان في الاستعمال العرفي .

وأما الوجه الرابع: أن الذين زعموا أن عيسى قد مات، قالوا إنه لا سبب لذلك الموت، إلا أن اليهود قتلوه وصلبوه، فإذا تحقق نفي هذا السبب وقطعهم أنه لم يمت بسبب غيره، تحققنا أنه لم يمت أصلا، وذلك السبب الذي زعموه منفي يقينا بلا شك، لأن الله جل وعلا قال: وما قتلوه وما صلبوه . وقال تعالى: وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه.

وضمير رفعه ظاهر في رفع الجسم والروح معا كما لا يخفى . اهـ

وأما قول الله تعالى : ... وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. {آل عمران:55}. فإنه يدل على فضل اتباع عيسى والإيمان به، والله تعالى أمر نبيه بالإيمان بعيسى وغيره من الأنبياء وأمر بذلك أمته كما في قوله تعالى: قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. {آل عمران:136}. وقوله تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.

ولا يمنع الإيمان بعيسى أن يرسل الله نبيا بعده كما بعث الله عيسى في بني إسرائيل وكان مؤمنا بموسى مصدقا برسالته، وقد بشر عيسى ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعده فقد قال الله تعالى: وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين. وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ. {الصف:6}.

ونحن نجزم أن المؤمنين بعيسى المتبعين له هم محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمون المؤمنون برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبمن قبله من الرسل، فهم يؤمنون برسالة عيسى وبراءته مما اتهمه به اليهود، ويؤمنون بالرسول الذي بشر به عيسى، وهم الذين سيكونون لعيسى أنصارا إذا نزل في آخر الزمن. فقد قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: أتباع النبي صلى الله عليه وسلم هم أتباع الأنبياء حقيقة فهم المؤمنون بالمسيح حقا. اهـ.

وقبل قيام الساعة سينزل عيسى عليه السلام حكما عدلا يحكم بشريعة الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد. متفق عليه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس بيني وبينه نبي ـ يعني عيسى عليه السلام ـ وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه: رجل مربوع إلى الحمرة والبياض بين ممصرتين، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك المسيح الدجال، فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون. رواه أبو داود.

وإن من أعجب الأعاجيب ما انطلى على النصارى من أوهام اليهود وأكاذيبهم فإنهم يعتقدون صدقهم في كونهم قتلوا المسيح وصلبوه ومع ذلك يخدمونهم وينصرونهم، ويعتقد كثير صدق أكاذيب بولس ومن تابعه في بنوة عيسى لله تعالى، تعالى الله أن يكون له ولد، ومع ذلك يقرون دعوى اليهود أنهم قتلوه فهل يرون أن اليهود غلبوا الله أم أنهم سعوا في رضاه بقتل عيسى أم ماذا؟ ولله در القائل:

عجبا للمسيح بين النصارى * وإلى أي والد نسبوه

أسلموه إلى اليهود وقالوا * إنهم بعد قتله صلبوه

فإذا كان ما يقولون حقا * وصحيحا فأين كان أبوه

حين خلى ابنه رهين الأعادي * أتراهم أرضوه أم أغضبوه

فلئن كان راضيا بأذاهم * فاحمدوهم لأنهم قتلوه

ولئن كان ساخطا فاتركوه * واعبدوهم لأنهم غلبوه

وقد أحسن ابن القيم رحمه الله إذ يقول:

أعباد المسيح لنا سؤال نريد جوابه ممن وعاه

إذا مات الإله بصنع قوم أماتوه فما هذا الإله

وهل أرضاه ما نالوه منه فبشراهم إذا نالوا رضاه

وإن سخط الذي فعلوه فيه فقوتهم إذا أوهت قواه

وهل بقي الوجود بلا إله سميع يستجيب لمن دعاه

وهل خلت الطباق السبع لما ثوى تحت التراب وقد علاه

وهل خلت العوالم من إله يدبرها وقد سمرت يداه

وكيف تخلت الأملاك عنه بنصرهم وقد سمعوا بكاه

وكيف أطاقت الخشبات حمل الإله الحق شد على قفاه

وهل عاد المسيح إلى حياة أم المحيي له رب سواه

ويا عجبا لقبر ضم ربا وأعجب منه بطن قد حواه

أقام هناك تسعا من شهور لدى الظلمات من حيض غذاه

وشق الفرج مولودا صغيرا ضعيفا فاتحا للثدي فاه

ويأكل ثم يشرب ثم يأتي بلازم ذاك هل هذا إله

تعالى الله عن إفك النصارى سيسأل كلهم عما افتراه

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني