الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من أحكام زوجة الغائب

السؤال

حكم لي القاضي بطلاق غيابي للضرر. وهو غياب الزوج، ولجهالة العنوان قد تم الإعلان في الصحيفة اليومية وأنه بعد مضي شهر على هذا الإعلان يقع الطلاق وتبدأ العدة. وهذا طلاق خلوة قبل الدخول.
فلو عاد الزوج خلال هذه المدة أو أرسل وكيلا عنه مريدا الطلاق أيضا. فماذا يترتب على هذا الوضع؟
أي أن المحكمة قد طلقت غيابيا ثم عاد هو ليطلق أيضا؟
وقد حكم بالعدة بحسب المذهب المالكي. فهل لي أن آخذ بالحكم بحسب المذهب الشافعي دون الرجوع للقاضي والمحكمة؟
وهل لي المطالبة بالمهر كاملا ونفقة الفترة الطويلة التي غابها ولم ينفق علي شيئا فيها؟جزيتم خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فسؤالك لا يخلو من غموض، وإذا كانت المحكمة المذكورة قد حكمت بكون الطلاق يكون نافذا بعد مضي شهر من الإعلان في الصحيفة عن الخبر. فإذا قام الزوج بالطلاق مباشرة أو توكيلا أثناء تلك المدة فطلاقه نافذ ويعتبر طلاقا بائنا لكونه قبل الدخول، ولا عدة على الزوجة، وطلاق المحكمة بعد ذلك لا أثر له لكونه لم يصادف محلا. وراجعي الفتوى رقم: 2550.

وإذا انقضى الشهر ولم يقدم الزوج فيكون حكم المحكمة بالطلاق نافذا، وإذا كان حكمها وفقا لمذهب المالكية فليس لك أن تعدلي عن حكمها وتأخذي بالمذهب الشافعي لأن حكم القاضي يرفع الخلاف ويصير المختلف فيه كالمتفق عليه، كما أن الطلاق هنا يعتبر بائنا على كل حال عند كل من المالكية والشافعية لأنه واقع قبل الدخول، ولأنه طلاق قد حكم به، والعدة التي حكمت بها المحكمة حسب المذهب المالكي إنما هي حق لله تعالى تلزم بحصول الخلوة، ولكن ليس للزوج الارتجاع ولا إرداف طلاق فيها لأنها في حقه غير موجودة طالما أنه مقر بانتفاء حصول وطء. وسنفصل لك حكم ما سألت عنه طبقا للمذهبين المذكورين.

فالبنسبة للمالكية يحق لزوجة الغائب طلب الطلاق لعدم النفقة، أو لكونها تضررت لفراقه.

قال الدسوقي المالكي في حاشيته: من جملة أمر الغائب فسخ نكاحه لعدم النفقة، أو لتضرر الزوجة بخلو الفراش. فلا يفسخ نكاحه إلا القاضي ما لم يتعذر الوصول إليه حقيقة أو حكما بأن كان يأخذ دراهم على الفسخ وإلا قام مقامه جماعة المسلمين كما ذكر ذلك شيخنا العدوى. انتهى.

وقد ذكرت أن الدخول لم يحصل بل حصلت خلوة فقط، فإن اشتملت تلك الخلوة على انفراد الزوجين مع غلق الأبواب عليهما، أو إرخاء الستور فإن العدة تجب بذلك عند المالكية، لكن إذا لم يتفق الزوجان على حصول الجماع فلا تصح الرجعة بعد الطلاق.

قال الدسوقي في حاشيته أيضا: حاصله أن الرجعة لا تصح إلا إذا ثبت النكاح بشاهدين، وثبتت الخلوة، ولو بامرأتين، وتقارر الزوجان بالإصابة، فإذا طلق الزوج زوجته ولم تعلم الخلوة بينهما، وأراد رجعتها فلا يمكن منها لعدم صحة الرجعة ; لأن من شرط صحة الرجعة أن يقع الطلاق بعد الوطء للزوجة، وإذا لم تعلم الخلوة فلا وطء فلا رجعة، ولو تصادق كل من الزوجين على الوطء قبل الطلاق وأولى إذا تصادقا بعده، وإنما شرط في صحة الرجعة أن يقع الطلاق بعد وطء ; لأنه إذا لم يحصل وطء كان الطلاق بائنا فلو ارتجعها لأدى إلى ابتداء نكاح بلا عقد ولا ولي ولا صداق. انتهى. وراجعي في ذلك الفتوى رقم:43479.

وطلاق القاضي أو نائبه عند المالكية يعتبر بائنا إلا في حالة الإيلاء أو العسر بالنفقة.

قال الخرشي في شرحه لمختصر خليل: يعني أن كل طلاق حكم الحاكم أو نائبه بإنشائه فإنه يكون بائنا إلا الطلاق على المولي والمعسر بالنفقة فإن الطلاق عليهما رجعي. انتهى.

أما الشافعية فيحق عندهم فسخ الطلاق لتضرر الزوجة بعدم النفقة.

ففي أسني المطالب لزكريا الأنصاري الشافعي: نعم إن انقطع خبر الغائب ثبت لها الفسخ ; لأن تعذر النفقة بانقطاع خبره كتعذرها بالإفلاس نقله الزركشي عن صاحب المهذب والكافي وغيرهما. انتهى.

والخلوة الشرعية عندهم لا يثبت بها المهر، وكذلك لا تلزم بها العدة على ما ذهب إليه الإمام الشافعي في الجديد وعليه أكثر أصحابه. قال النووي في المجموع: وإذا قلنا بقوله الجديد قال العمراني وأكثر الأصحاب، وهو الأصح فوجهه قوله تعالى: وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ. {البقرة: 237}. ولم يفرق بين أن يخلو بها أو لا يخلو بها، ولأن الخلوة لو كانت كالإصابة في تقرير المهر ووجوب العدة لكانت كالإصابة في وجوب مهر المثل في الشبهة. انتهى.

وطلاق الزوج أو وكيله بعد طلاق المحكمة لا يقع لأنه لم يصادف محلا، فالخلوة عند الشافعية -كما تقدم- لا تقوم مقام الدخول، وعند المالكية أيضا لا تصح فيها الرجعة إذا لم يكن قد حصل جماع، وطلاق القاضي عندهم بائن مطلقا في غير العسر بالنفقة والإيلاء كما سبق.

هذا فيما يخص غيبة الزوج غير المفقود.. فإن كان مفقودا بحيث انقطع خبره ولم يعلم موضعه فلأهل العلم فيه عدة مذاهب تقدم بيانها وذلك في الفتوى رقم: 2671.

وحكم القاضي في مثل هذه المسألة مُلزم ورافع للخلاف، وبالتالي فلا يجوز لك الأخذ بمذهب آخر إن وجد مخالف لما تضمنه حكم القاضي نظرا للمصلحة المترتبة على هذا الحكم من قطع النزاع ودرء الخصومات والفساد.

قال الإمام القرافي في الفروق: اعلم أن حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد يرفع الخلاف ويرجع المخالف عن مذهبه لمذهب الحاكم، وتتغير فتياه بعد الحكم عما كانت عليه على القول الصحيح من مذاهب العلماء... إلى أن قال: والجمهور على التنفيذ لوجهين وهما الفرق المقصود في هذا الموضع أحدهما أنه لولا ذلك لما استقرت للحكام قاعدة ولبقيت الخصومات على حالها بعد الحكم وذلك يوجب دوام التشاجر والتنازع وانتشار الفساد ودوام العناد وهو مناف للحكمة التي لأجلها نصب الحكام، وثانيهما وهو أجلهما أن الله تعالى جعل للحاكم أن ينشئ الحكم في مواضع الاجتهاد بحسب ما يقتضيه الدليل عنده أو عند إمامه الذي قلده فهو منشئ لحكم الإلزام فيما يلزم والإباحة فيما يباح. انتهى.

وبخصوص المهر فلك المطالبة بنصفه فقط عند المالكية والشافعية لأنه لا يتقرر كاملا عند المذهبين إلا بالوطء وتستحقين النفقة عن مدة غيبة زوجك إذا كان الزوج قد تمكن من الاستمتاع من غير رفض منك ولا ممانعة، فإن لم تكوني مكنته من الاستمتاع قبل سفره فلا نفقة لك أثناء غيبته.

قال ابن قدامة في المغني: وإن غاب الزوج بعد تمكينها ووجوب نفقتها عليه، لم تسقط عنه، بل تجب عليه في زمن غيبته ; لأنها استحقت النفقة بالتمكين، ولم يوجد منها ما يسقطها. وإن غاب قبل تمكينها، فلا نفقة لها عليه ; لأنه لم يوجد الموجب لها. انتهى.

ورفعك دعوى الطلاق لا يسقط حقك في نصف الصداق والنفقة إذا ثبت استحقاقها.

ومما ذكر تعلمين أنه ليس لك الانتقال عما حكمت به الحكمة، وأنه لا فرق بين المذهب الشافعي والمالكي في شيء من هذه الأحكام إلا في إيجاب العدة عند المالكية، وليست لها ثمرة بالنسبة إليك إلا في وجوب تربصك عن النكاح.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني