الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

لماذا تقولون إن القرآن محدث مع أن السلف قالوا إن القرآن كلام الله القديم تكلم به في القدم وهو غير محدث. وكفروا من وصف القرآن بمحدث؟ وكيف تفسرون هذه الآثار الواردة عن السلف:
قال اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة: أخبرنا أحمد بن عبيد قال أخبرنا محمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن زهير قال سمعت محمد بن يزيد قلت لوكيع يا أبا سفيان إن هذا الرجل رأيته عندك يزعم أن القرآن مخلوق فقال وكيع: من قال إن القرآن مخلوق فقد زعم أن القرآن محدث ومن زعم أن القرآن محدث فقد كفر.اهـ.
قال ابن كثير في البداية والنهاية : وروى البيهقي من طريق اسماعيل بن محمد السلمي عن أحمد أنه قال: من قال القرآن محدث فهو كافر. اهـ.
جاء في " سير أعلام النبلاء في ترجمة الإمام ابن خزيمة إثباته هذا المعتقد :
القرآن كلام الله تعالى ، وصفة من صفات ذاته ، ليس شيء من كلامه مخلوق ولا مفعول ولا محدث. فمن زعم أن شيئا منه مخلوق أو محدث أو زعم أن الكلام من صفة الفعل، فهو جهمي ضال مبتدع ، وأقول : لم يزل الله متكلما والكلام له صفة ذات. اهـ.
5- أملى أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه اعتقاده واعتقاد رفقائه على أبي بكر بن أبي عثمان، وعرضه على محمد بن إسحاق الفقيه بن خزيمة فاستصوبه محمد بن إسحاق وارتضاه، وكان فيما أملى من اعتقادهم : فكلام الله عز وجل غير بائن عن الله ليس هو دونه ولا غيره ولا هو هو ، بل هو صفة من صفات ذاته كعلمه الذي هو صفة من صفات ذاته، لم يزل ربنا عالما ولا يزال عالما، ولم يزل يتكلم ولا يزال يتكلم، فهو الموصوف بالصفات العلى، ولم يزل بجميع صفاته التي هي صفات ذاته واحدا ولا يزال، وهو اللطيف الخبير. وكان فيما كتب : القرآن كلام الله تعالى وصفة من صفات ذاته، ليس شيء من كلامه خلقا ولا مخلوقا ولا فعلا ولا مفعولا ولا محدثا ولا حدثا ولا أحداثا. الأسماء والصفات.
يقول الإمام الذهبي رحمه الله في كتابه "سير أعلام النبلاء: وقالت طائفة القرآن محدث كداود الظاهري ومن تبعه فبدعهم الإمام أحمد وأنكر ذلك، وثبت على الجزم بأن القرآن كلام الله غير مخلوق وأنه من علم الله وكفر من قال بخلقه وبدع من قال بحدوثه".
في العلو للحافظ الذهبي أن فضيل بن عياض كان يقول : من زعم أن القرآن محدث فقد كفر ومن زعم أنه ليس من علم الله فهو زنديق.
عن وكيع قال : من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن القرآن محدث ومن زعم أن القرآن محدث فقد كفر. (الأسماء والصفات تحقيق عبد الله الحاشدي والسنة المنسوب لعبد الله بن أحمد بن حنبل)
قال الحافظ ابن حجر في الفتح : وأخرج ابن أبي حاتم من طريق هشام بن عبيد الله الرازي أن رجلا من الجهمية احتج لزعمه أن القرآن مخلوق بهذه الآية ( وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ) فقال له هشام محدث إلينا محدث إلى العباد، وعن أحمد بن إبراهيم الدورقي نحوه.
ومن طريق نعيم بن حماد قال: محدث عند الخلق لا عند الله ، قال وإنما المراد أنه محدث عند النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه بعد أن كان لا يعلمه، وأما الله سبحانه فلم يزل عالما.
وقد نقل الهروي في الفاروق بسنده إلى حرب الكرماني ‏:‏ سألت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يعني ابن راهويه عن قوله تعالى ‏( وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ) قال ‏:‏ قديم من رب العزة محدث إلى الأرض.
فسروا لي هذه الاثار الواردة عن السلف جزاكم الله خيرا؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فلم يتضح لنا من يقصد السائل بقوله: (لماذا تقولون إن القرآن محدث ؟) أما نحن فلم نقل بذلك ولن نقوله. وأما تفسير الآثار الواردة في السؤال، فيستبين بقول شيخ الإسلام ابن تيمية: الله يتكلم بمشيئته وقدرته، وكلامه هو حديث، وهو أحسن الحديث، وليس بمخلوق باتفاقهم، ويسمى حديثًا وحادثًا، وهل يسمى محدثًا ؟ على قولين لهم. ومن كان من عادته أنه لا يطلق لفظ المحدث إلا على المخلوق المنفصل كما كان هذا الاصطلاح هو المشهور عند المتناظرين الذين تناظروا في القرآن في محنة الإمام أحمد رحمه اللّه وكانوا لا يعرفون للمحدث معنى إلا المخلوق المنفصل فعلى هذا الاصطلاح لا يجوز عند أهل السنة أن يقال: القرآن محدث، بل من قال: إنه محدث، فقد قال: إنه مخلوق. ولهذا أنكر الإمام أحمد هذا الإطلاق على داود لما كتب إليه أنه تكلم بذلك، فظن الذين يتكلمون بهذا الاصطلاح أنه أراد هذا فأنكره أئمة السنة. وداود نفسه لم يكن هذا قصده، بل هو وأئمة أصحابه متفقون على أن كلام اللّه غير مخلوق، وإنما كان مقصوده أنه قائم بنفسه، وهو قول غير واحد من أئمة السلف، وهو قول البخاري وغيره. والنزاع في ذلك بين أهل السنة لفظي، فإنهم متفقون على أنه ليس بمخلوق منفصل، ومتفقون على أن كلام اللّه قائم بذاته، وكان أئمة السنة كأحمد وأمثاله، والبخاري وأمثاله، وداود وأمثاله، وابن المبارك وأمثاله، وابن خزيمة وعثمان بن سعيد الدارمي وابن أبي شيبة وغيرهم، متفقين على أن اللّه يتكلم بمشيئته وقدرته، ولم يقل أحد منهم: إن القرآن قديم. وأول من شهر عنه أنه قال ذلك هو ابن كُلاب. اهـ.

وقال أيضا رحمه الله: إن أردت بقولك: محدث، أنه مخلوق منفصل عن الله كما يقول الجهمية والمعتزلة والنجارية، فهذا باطل لا نقوله، وإن أردت بقولك: إنه كلام تكلم الله به بمشيئته بعد أن لم يتكلم به بعينه، وإن كان قد تكلم بغيره قبل ذلك مع أنه لم يزل متكلما إذا شاء فإنا نقول بذلك. وهو الذي دل عليه الكتاب والسنة وهو قول السلف وأهل الحديث. اهـ.

وبهذا يتبين متى يقبل هذا القول ومتى يرد، بحسب المراد منه، وقد وضح ذلك الحافظ ابن كثير عند كلامه على مبدأ فتنة القول بخلق القرآن في عصر المأمون وأنه كتب الكتب بامتحان الناس بذلك، وكان مضمونها الاحتجاج بأن القرآن محدث، وكل محدث مخلوق.

قال ابن كثير: وهذا احتجاج لا يوافقه عليه كثير من المتكلمين فضلا عن المحدثين، فإن القائلين بأن الله تعالى تقوم به الأفعال الاختيارية لا يقولون بأن فعله تعالى القائم بذاته المقدسة مخلوق، بل لم يكن مخلوقا، بل يقولون: هو محدث. وليس بمخلوق، بل هو كلام الله القائم بذاته المقدسة، وما كان قائما بذاته لا يكون مخلوقا، وقد قال الله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ. {الأنبياء: 2}. وقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ. {الأعراف: 11}. فالأمر بالسجود صدر منه بعد خلق آدم، فالكلام القائم بالذات ليس مخلوقا، وذا له موضع آخر، وقد صنف البخاري كتابا في هذا المعنى سماه خلق أفعال العباد. اهـ.

وقال الشيخ ابن عثيمين في فتاوى نور على الدرب: من قال إن القرآن محدث، فليس بمبتدع وليس بضال، بل قد قال الله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ. نعم لو كان المخاطب لا يفهم من كلمة محدث إلا أنه مخلوق، فهنا لا نخاطبه بذلك ولا نقول إنه محدث؛ خشية أن يتوهم ما ليس بجائز. اهـ.

وقال الشيخ بكر أبو زيد في معجم المناهي اللفظية: قال الله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ. {الأنبياء: 2}. أي إن الله تعالى تكلَّم بالقرآن بمشيئته بعد أن لم يتكلم به بعينه، وإن كان قد تكلم بغيره قبل ذلك، ولم يزل سبحانه متكلماً إذا شاء، فالقرآن محدث بهذا المعنى. أما تسمية المبتدعة له محدثاً بمعنى مخلوق فهذا باطل، لا يقول به إلا الجهمية والمعتزلة. فهذا الإطلاق بهذا الاعتبار لا يجوز. اهـ.

وراجع لمزيد الإيضاح والفائدة الفتوى رقم: 46415.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني