الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أنفع العبادات وأفضلها وأكثرها ثوابا

السؤال

إخوتي لدي سؤال مهم جدا جد، وأعتقد بأنه يهم أي شخص مؤمن يخاف من ربه ويرجو رضاه.
في البداية ربنا برحمته وعظمته قد يسّر لنا أبوابا لا تُعد ولا تُحصى للتقرب إليه ! ولكن يا ترى ما هي أحب الأعمال إلى الله وأعظمها أجرا ! ستقولون لي الجهاد وبر الوالدين والصلاة في وقتها بإسناد لحديث للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا لا أختلف معكم في ذلك ! ولكن أيضا هنالك كثير جدا من المواضع ما قُدّم بها غير ما سبق وذكرته كالصدقة والعلم وعمل الخير لأخي المؤمن والعفو والأمر بالمعروف.
دعوني أسهلها عليكم لأنني أريدكم أن تجيبوني بمنتهى الدقّة فلنفرض مثلا بأنه لا يوجد لدي متسع من الوقت سوى 5 دقائق { مثلا} وكان يدور في بالي بأن أستغل هذه الخمس دقائق في ما يرضي الله وتراود في ذهني :قراءة القرآن، أو بالاستغفار لله ما تيسر في هذه الخمس دقائق، أو أن أصلي لوجه الله نافلة ما شاء الله لي من ركعات ! أو أن أقوم بعمل يرضي والدتي كأن أرتب الغرفة أو أعمل إبريقا من الشاي لها ولعائلتي ! أو أذهب وأتصفح النت وأستزيد من {العلم النافع } الذي يفيدني ويفيد الأمة الإسلامية بشكل عام ! أو أن أقوم وأعين أخا مسلما لي !؟!
فيا ترى أختار أي منها كحسب أعظم أجر فيها لطالما يراودني هذا السؤال لأنني أبحث عما يرضي ربي بشكل أكبر ! وخاصة خاصة { ما هو الأعظم أجرا الصلاة غير المفروضة أم قراءة القرآن و{الزيادة في العلم أم مساعدة مكروب }؟ وأيضا يا حبذا لو أعطيتموني قاعدة أمشي بها كي أميز ما بين ما يرضي الله أكثر وأنال من الأجر ! وخاصة أنني لا أريد أن أتبع أول خطوة من خطوات الشيطان، وهي أن أبدأ بعمل الأعمال الأخف بدل من الأعمال الأهم والأعظم. أرجو منك التفصيل في كل ما ذكرت، وإن حصل وأرفقتم لي بعض الروابط لبعض الأعمال الصالحة التي ترضي الله سأكون شاكرة لكم في ذلك.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فلا شك أن هذا سؤال عظيم، وجواب يحتاج إلى تفصيل يليق به، ولم نجد أجمع في جواب ذلك من كلام الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ حيث ذكر في (مدارج السالكين) اختلاف أهل العلم في ذلك، وأظهر حجة كل قول، ثم بين الراجح بما يليق بهذه المسألة الجليلة، فقال ما ملخصه: أهل مقام (إياك نعبد) لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصيص أربع طرق، فهم في ذلك أربعة أصناف:

ـ الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات وأفضلها أشقها على النفوس وأصعبها ..

ـ الصنف الثاني: قالوا: أفضل العبادات التجرد والزهد في الدنيا ..

ـ الصنف الثالث: رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها ما كان فيه نفع متعد، فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر، فرأوا خدمة الفقراء، والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع ـ أفضل ..

ـ الصنف الرابع: قالوا: إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن. والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب. وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل. والأفضل في أوقات السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار. والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل الإقبال على تعليمه والاشتغال به. والأفضل في أوقات الأذان ترك ما هو فيه من ورده والاشتغال بإجابة المؤذن. والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت والخروج إلى الجامع وإن بعد كان أفضل. والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال الاشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك. والأفضل في وقت قراءة القرآن جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه حتى كأن الله تعالى يخاطبك به ... والأفضل في وقت الوقوف بعرفة الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك. والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من التعبد لا سيما التكبير والتهليل والتحميد فهو أفضل من الجهاد غير المتعين. والأفضل في العشر الأخير من رمضان لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء. والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك. والأفضل في وقت نزول النوازل وأذية الناس لك أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم؛ فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه. والأفضل خلطتهم في الخير فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر فهو أفضل من خلطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم. فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه. وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد، فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته، فهو يعبد الله على وجه واحد، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت، فمدار تعبده عليها فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى .. اهـ. إلى آخر ما قال رحمه الله.

وقد سبق لنا مزيد لهذه المسألة في الفتويين: 102104 ، 12178.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني