الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

توضيحات حول حديث (..إني لأفعل ذلك أنا وهذه..)

السؤال

قرأت حديثا : أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل . هل عليهما الغسل ؟ وعائشة جالسة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأفعل ذلك أنا وهذه . ثم نغتسل. رواه مسلم. وحين بحثت عن هذا الحديث قرأت أن الإمام مسلم رحمه الله لم يصححه بل أخرجه فى الشواهد ولم أفهم معنى هذا الكلام, و قرأت أن في سنده عللا بالإضافة إلى أن متنه منكر أيضاً فهو يناقض حديث: إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة و تفضي إليه ثم ينشر سرها. فأنا أريد أن أفهم هل هذا الكلام صحيح؟ لأنى فى حيرة شديدة.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه وفي بعض رواته ـ وهو عياض بن عبد الله الفهري ـ ضعف، والعادة أن مسلما ـ رحمه الله ـ يخرج لأمثال هؤلاء في الشواهد والمتابعات، وهذا ما حصل في هذا الحديث فقد أخرجه الإمام مسلم في آخر الباب. ولكن ما يجبر ذلك أن عياضا لم يتفرد به، بل تابعه ابن لهيعة وأشعث بن سوار.

قال الدارقطني في العلل: روى هذا الحديث أبو الزبير عن جابر بن عبد الله عن أم كلثوم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يختلف عنه في رفعه، حدث به عن أبي الزبير كذلك عياض بن عبد الله الفهري وعبد الله بن لهيعة وأشعث بن سوار. اهـ.

وأيضا فإن هذا الحديث عند مسلم من رواية أبي الزبير عن جابر، وأبو الزبير مدلس ولم يصرح بالسماع، وبذلك أعله الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ فأورده في (السلسلة الضعيفة) فقال: العلة في عنعنة أبي الزبير مع المخالفة. اهـ.

و يقال في جواب هذا ما قاله النووي ـ رحمه الله ـ في (شرح مسلم): اعلم أن ما كان في الصحيحين عند المدلسين بعن ونحوها، فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى، وقد جاء كثير منه في الصحيح بالطريقتين جميعا فيذكر رواية المدلس بعن ثم يذكرها بالسماع ويقصد به هذا المعنى الذي ذكرته. اهـ.

ويثبت ذلك ما قاله الحافظ مغلطاي في شرحه على (سنن ابن ماجه): ليس لقائل أن يقول: هو من رواية أبي الزبير عن جابر، من غير تصريح بالسماع، ولا هو من رواية الليث عنه، وذلك مشعر بالانقطاع، وإن كان عند مسلم فإنه ينفع في المناظرة لا في النظر؛ لأنه وقع لنا طريق يصرح فيها بالسماع ذكرها الحافظ أبو بكر الخطيب فيما رويناه عنه في كتاب (رواية الصحابة عن التابعين) من حديث الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود حدثنا عبد الله عن أبي الزبير أخبرني جابر به. اهـ.

ثم إن الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ قد صححه موقوفا، وهذا لا يزيل إشكال متنه بالكلية؛ إذ يقال: كيف تصرح أم المؤمنين عائشة بمثل هذا؟

وأما فقه هذا الحديث فينبغي أن نقف فيه على مسألتين:

ـ المسألة الأولى: أن مجرد ذكر الجماع ليس من إفشاء ما يكون بين الزوجين، بخلاف ذكر تفاصيل ذلك مما يتعلق بأمور الاستمتاع. وحتى لو قلنا: إن هذا من الإفشاء، فإنه يستفاد منه أن إفشاء شيء من ذلك في بعض الأحوال بطريقة غير مستهجنة ولا معيبة ـ مما يستحسن إذا ترتب عليه فائدة عامة أو مصلحة شرعية.

قال النووي في تعليقه على حديث: إن من شر الناس منزلة .. قال: في هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجرى بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك، وما يجرى من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه، فأما مجرد ذكر الجماع فإن لم تكن فيه فائدة ولا إليه حاجة فمكروه؛ لأنه خلاف المروءة.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت.

وإن كان إليه حاجة أو ترتب عليه فائدة بأن ينكر عليه إعراضه عنها أو تدعى عليه العجز عن الجماع أو نحو ذلك فلا كراهة في ذكره، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إني لأفعله أنا وهذه". وقال صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: أعرستم الليلة؟ وقال لجابر: الكيس الكيس. اهـ.

وقد بوب عليه النسائي في (السنن الكبرى): باب الرخصة في أن يحدث الرجل بما يكون بينه وبين زوجته. اهـ.

ـ المسألة الثانية: ما هي الحكمة من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عن نفسه ؟ والجواب: أن في ذلك زيادة في البيان وتأكيدا للحكم ورفعا للريبة، فإنه من المعلوم أن تأثير فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتمع مع قوله أبلغ في البيان من مجرد القول. ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه بعد صلح الحديبية: قوموا فانحروا ثم احلقوا. فما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما. رواه البخاري.

وبهذا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أجاب هذا السائل بحكاية فعل ذلك عن نفسه، فإنه لم يدع مجالا للشك في الحكم.

قال القاضي عياض في (إكمال المعلم): غاية في البيان للسائل بإخباره عن فعل نفسه وأنه مما لا ترخص فيه. اهـ.

وقال النووي: فيه جواز ذكر مثل هذا بحضرة الزوجة إذا ترتبت عليه مصلحة ولم يحصل به أذى، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم بهذه العبارة ليكون أوقع في نفسه. اهـ.

وبالنسبة لما جاء عن عائشة رضي الله عنها من ذلك موقوفا عليها فيمكن أن يقال إن ذلك كان جوابا صريحا لمسألة اختلف فيها الصحابة وهي وجوب الغسل بدون إنزال، ثم إنهم احتكموا إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة كما جاء من الآثار عن علي وغيره. فكان المناسب أن يكون جوابها على هذا النحو من التصريح رفعا للخلاف والشك.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني