الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم استرداد الدين بعد إبراء المدين منه

السؤال

يجزيكم الله خيرا على جهودكم المبذولة في الدعوة.
سؤالي يتعلق بالديون: فقد اقترض مني بعض معارفي وأصدقائي مبالغ مالية. وقبل أن يقوموا بسداد هذه المبالغ كنت قد عفوت من تلقاء نفسي عن هذه الديون رجاء في عفو الله تعالى، ولم أقم بإخبارهم بهذا خوفا من أن يؤثر هذا سلبا على مشاعرهم (فقد يفهم أنه من باب المنّ أو أن يفهم منه أنهم قد أثقلوا علي) فلذلك لم أرد إخبارهم.
سؤالي هو: ما حكم ما ردوه إلي من الدين، إذ هناك من أرجع إليّ الدين الذي عليه، وقد أدخلني هذا في حيرة. كيف أتصرف في هذه الأموال، وقد عفوت عنهم رجاء في عفو الله تعالى؟ وهل يجوز أن أتصدق بها باعتبار أنها ليست لي؟
ووفقكم الله وسدد خطاكم.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإن كان السائل يعني بعفوه عن هذا الدين مجرد النية والعزم دون التلفظ بذلك، فلا حرج عليه إن شاء الله في استرداد هذا الدين، وإن كان الأفضل أن يفعل ما نواه من الخير، فيرده إلى صديقه الذي كان مدينا به. وإن كان في ذلك حرج على صديقه فلا بأس أن يتصدق به، ففي الصحيحين عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب تصدق بفرس في سبيل الله فوجده يباع، فأراد أن يشتريه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأمره فقال: لا تعد في صدقتك. فبذلك كان ابن عمر رضي الله عنهما لا يترك أن يبتاع شيئا تصدق به إلا جعله صدقة.

قال ابن حجر في الفتح: أي كان إذا اتفق له أن يشتري شيئا مما تصدق به لا يتركه في ملكه حتى يتصدق به. اهـ.

وأما إذا كان مراد السائل بعفوه أنه أسقط هذا الدين وأبرأ منه صاحبه باللفظ والكلام لا بمجرد النية، فرجوعه بعد ذلك متوقف على قبول المدين لهذا الإسقاط، حيث اختلف أهل العلم في توقف الإبراء على قبول المدين، على قولين:

ـ الأول: عدم حاجة الإبراء إلى القبول وهو مذهب الجمهور بناء على أنه إسقاط للحق، والإسقاطات لا تحتاج إلى قبول، كالطلاق والعتق وإسقاط الشفعة والقصاص.

ـ والثاني: حاجة الإبراء إلى القبول، وهو مذهب المالكية، بناء على أن الإبراء نقل للملك، أي تمليك ما في ذمة المدين له، فيكون من قبيل الهبة، وهي لا بد فيها من القبول.

قال القرافي: يتأكد ذلك أي الافتقار للقبول بأن المنة قد تعظم في الإبراء وذوو المروءات والأنفات يضر ذلك بهم.. فجعل صاحب الشرع لهم قبول ذلك أو رده، نفيا للضرر الحاصل من المنن من غير أهلها أو من غير حاجة. اهـ.

وبناء على هذا الخلاف يكون حكم رجوع السائل عن إبرائه واسترداده لدينه، فقد ذكر أنه لم يخبر المدين بهذا الإبراء، وبالتالي لم يحصل قبوله، فعلى قول المالكية يكون للدائن الرجوع، وعلى قول الجمهور لا يكون له ذلك.

جاء في الموسوعة الفقهية: قد يرجع المبرئ عن الإبراء بعد صدور الإيجاب فقط، أو بعده وبعد القبول وعدم الرد، ففي أثر هذا العدول رأيان للفقهاء:

ـ ذهب الحنفية والحنابلة وهو قول للشافعية إلى أنه لا يستفيد من رجوعه شيئا؛ لأن ما كان له سقط بالإبراء، والساقط لا يعود، ولا بقاء للدين بعده، فأشبه ما لو وهبه شيئا فتلف.

ـ وذهب المالكية والشافعية على القول الآخر إلى أنه يفيد فيه الرجوع، وذلك تغليبا لمعنى التمليك في الإبراء واشتراط القبول له، حيث إن للموجب في عقود التمليك أن يرجع عن إيجابه ما لم يتصل به القبول. اهـ.

فإن كان بوسع السائل أن يرد هذا الدين إلى من كان عنده فليفعل ذلك، وإن كان في ذلك حرج عليه أو على صاحبه، فلا نرى حرجا من الاعتماد على قول المالكية. وعندئذ فلو تصدق به فهو أفضل لما أشرنا إليه في أول الجواب.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني