الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أقوال وتصرفات الهازل في ميزان الشرع

السؤال

هل هناك فرق بين أفعال المكلَف وما يصدر منه في حالة المزاح، وما يصدر منه في حالة الجد. أي بمعنى أن المزاح ليس له اعتبار في نظر الشرع ؟
وإذا كان هناك فرق فأرجو بيانها للأهمية ؟
وهل المعاصي إذا فعلت على وجه المزاح تكون أخف ذنباً عند الله من إيقاعها على وجه الجد؟
كمن يسب ويغتاب ويقذف مازحاً؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإنه لا فرق بين الجد والمزح في السب والقذف والغيبة وغيرها من المحرمات، والأمور المتعلقة بحقوق الله تعالى، وكذا في الزواج والطلاق والعتق والرجعة عند الجمهور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ثلاث هزلهن جد وجدهن جد: الطلاق والنكاح والرجعة. رواه الترمذي.

قال الخطابي: اتفق عامة أهل العلم على أن صريح لفظ الطلاق إذا جرى على لسان الإنسان البالغ العاقل فإنه مؤاخذ به، ولا ينفعه أن يقول: كنت لاعباً أو هازلاً أو لم أنوه طلاقاً.. أو ما أشبه ذلك من الأمور. اهـ

وفصل بعض العلماء في البيوع وما أشبهها فذكر أنها لا تلزم بالهزل جاء في أحكام القرآن لابن العربي - (4 / 353) عند قوله تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {التوبة:65} قال رحمه الله: لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدا أو هزلا ، وهو كيفما كان كفر ؛ فإن الهزل بالكفر كفر ، لا خلف فيه بين الأمة ، فإن التحقيق أخو الحق والعلم ، والهزل أخو الباطل والجهل

قال علماؤنا : نظروا إلى قوله : { أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } .

فإن كان الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق فقد اختلف الناس في ذلك على أقاويل ، جماعها ثلاثة : الفرق بين البيع وغيره .

الثاني : لا يلزم الهزل .

الثالث : أنه يلزم .

فقال في كتاب محمد : يلزم نكاح الهازل .

وقال أبو زيد عن ابن القاسم في العتبية : لا يلزم .

وقال علي بن زياد : يفسخ قبل وبعد .

وللشافعي في بيع الهازل قولان ؛ وكذلك يتخرج من قول علمائنا فيه القولان .

قال متأخرو أصحابنا : إن اتفقا على الهزل في النكاح والبيع لم يلزم ، وإن اختلفا غلب الجد الهزل .

قال الإمام ابن العربي : فأما الطلاق فيلزم هزله ، وكذلك العتق ؛ لأنه من جنس واحد يتعلق بالتحريم والقربة ، فيغلب اللزوم فيه على الإسقاط .اهـ

و جاء في إعلام الموقعين لابن القيم: الكلام محمول على معناه المفهوم منه عند الإطلاق لاسيما الأحكام الشرعية التي علق الشارع بها أحكامها، فإن المتكلم عليه أن يقصد بتلك الألفاظ معانيها والمستمع عليه أن يحملها على تلك المعاني، فإن لم يقصد المتكلم بها معانيها بل تكلم بها غير قاصد لمعانيها أو قاصدا لغيرها أبطل الشارع عليه قصده فإن كان هازلا أو لاعبا لم يقصد المعنى ألزمه الشارع المعنى كمن هزل بالكفر والطلاق والنكاح والرجعة....

والمكره على كلمة الكفر أتى بصريح كلمته ولم يكفر لعدم إرادته بخلاف المستهزئ والهازل فإنه يلزمه الطلاق والكفر وإن كان هازلا لأنه قاصد للتكلم باللفظ وهزله لا يكون عذرا له بخلاف المكره والمخطئ والناسي فإنه معذور مأمور بما يقوله أو مأذون له فيه والهازل غير مأذون له في الهزل بكلمة الكفر والعقود فهو متكلم باللفظ مريد له ولم يصرفه عن معناه إكراه ولا خطأ ولا نسيان ولا جهل والهزل لم يجعله الله ورسوله عذرا صارفا بل صاحبه احق بالعقوبة، ألا ترى ان الله تعالى عذر المكره في تكلمه بكلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئنا بالايمان ولم يعذر الهازل بل قال ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم، وكذلك رفع المؤاخذة على المخطئ والناسي ... انتهى.

وفي الفتاوى الكبرى لابن تيمية - (6 / 63): وأما الهازل فقد جاء في الحديث المشهور عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة }. رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن غريب، وعن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { من نكح لاعبا، أو طلق لاعبا، أو أعتق لاعبا فقد جاز }. وعن عمر بن الخطاب قال: أربع جائزات إذا تكلم بهن: الطلاق. والعتاق. والنكاح. والنذر، وعن علي: ثلاث لا لعب فيهن الطلاق والعتاق والنكاح، وعن أبي الدرداء قال: ثلاث اللعب فيهن كالجد الطلاق والنكاح والعتق، وعن عبد الله بن مسعود قال: النكاح جده ولعبه سواء. رواهن أبو حفص العكبري. فأما طلاق الهازل فيقع عند العامة، وكذلك نكاحه صحيح كما هو في متن الحديث المرفوع وهذا هو المحفوظ عن الصحابة والتابعين وهو قول الجمهور، وحكاه أبو حفص العكبري عن أحمد بن حنبل نفسه وهو قول أصحابه، وقول طائفة من أصحاب الشافعي، وذكر بعضهم أن نص الشافعي أن نكاح الهازل لا يصح بخلاف طلاقه، ومذهب مالك الذي رواه ابن القاسم وعليه العمل عند أصحابه أن هزل النكاح والطلاق لازم؛ فلو خطب رجل امرأة ووليها حاضر وكانت فوضت ذلك إليه، فقال: قد فعلت. أو كانت بكرا وخطبت إلى أبيها، فقال: قد أنكحت، فقال: لا أرضى لزمه النكاح بخلاف البيع. وروي عن علي بن زياد في السليمانية، عن مالك أنه قال: نكاح الهازل لا يجوز. قال سليمان: إذا علم الهزل، وإن لم يعلم فهو جائز. وقال بعض المالكية: فإن قام دليل الهزل لم يلزمه عتق ولا طلاق ولا نكاح، ولا شيء عليه من الصداق. وإن قام دليل ذلك في الباطن لزمه نصف وأما بيع الهازل ونحوه من التصرفات المالية المحضة، فإنه لا يصح عند القاضي أبي يعلى وأكثر أصحابه، وهذا قول الحنفية فيما أظن، وهو قول المالكية، وهو قول أبي الخطاب في خلافه الصغير وقال في خلافه الكبير وهو الانتصار يصح بيعه كطلاقه، وكذلك خرج بعض أصحاب الشافعي هذه المسألة على وجهين، ومن قال بالصحة قاس سائر التصرفات على النكاح والطلاق والرجعة. والفقه فيه أن الهازل أتى بالقول غير ملتزم لحكمه، وترتب الأحكام على الأسباب للشارع لا للعاقد، فإذا أتى بالسبب لزمه حكمه شاء، أو أبى؛ لأن ذلك لا يقف على اختياره، وذلك أن الهازل قاصد للقول مريد له مع علمه بمعناه وموجبه وقصد اللفظ المتضمن المعنى قصد لذلك المعنى لتلازمهما إلا أن يعارضه قصد آخر، كالمكره والمحلل، فإنهما قصدا شيئا آخر غير معنى القول، وموجبه. فكذلك جاء الشرع بإبطالهما. ألا ترى أن المكره قصد دفع العذاب عن نفسه، فلم يقصد المسبب ابتداء، والمحلل قصده إعادتها إلى المطلق، وذلك ينافي قصده لموجب السبب، والهازل قصد السبب ولم يقصد حكمه ولا ما ينافي حكمه، ولا ينتقض هذا بلغو اليمين فإنه في لغو اليمين لم يقصد اللفظ، وإنما جرى على لسانه من غير قصد لكثرة اعتياد اللسان لليمين، وأيضا فإن الهزل أمر باطن لا يعلم إلا من جهته، فلا يقبل قوله في إبطال حق العاقد الآخر. ومن فرق بين النكاح وبابه وبين البيع وبابه، قال: الحديث والآثار تدل على أن من العقود ما يكون جده وهزله سواء، ومنها ما لا يكون كذلك، وإلا لقيل: إن العقود كلها والكلام كله جده وهزله سواء، وفرق من جهة المعنى بأن النكاح والطلاق والعتق والرجعة ونحو ذلك فيها حق الله سبحانه وهذا في العتق ظاهر وكذلك في الطلاق فإنه يوجب تحريم البضع في الجملة على وجه لا يمكن استباحته، ولهذا تجب إقامة الشهادة فيه، وإن لم تطلبها الزوجة، وكذلك في النكاح فإنه يفيد حل ما كان حراما على وجه لو أراد العبد حله بغير ذلك الطريق لم يمكن ولو رضي الزوجان ببذل البضع لغير الزوج لم يجز ويفيد حرمة ما كان حلالا وهو التحريم الثابت بالمصاهرة فالتحريم حق لله سبحانه ولهذا لم يستبح إلا بالمهر، وإذا كان كذلك لم يكن للعبد مع تعاطي السبب الموجب لهذا الحكم أن يقصد عدم الحكم، كما ليس له ذلك في كلمات الكفر قال سبحانه: { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } لأن الكلام المتضمن لمعنى فيه حق لله سبحانه لا يمكن قبوله مع دفع ذلك الحق، فإن العبد ليس له أن يهزل مع ربه ولا يستهزئ بآياته، ولا يتلاعب بحدوده ولعل حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: { ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته } في الهازلين بمعنى أنهم يقولونها لعبا غير ملتزمين لحكمها، وحكمها لازم لهم، بخلاف البيع ونحوه، فإنه تصرف في المال الذي هو محض حق الآدمي، ولهذا يملك بذله بعوض وبغير عوض، والإنسان قد يلعب مع الإنسان ويتبسط معه، فإذا تكلم على هذا الوجه لم يلزمه حكم الجاد؛ لأن المزاح معه جائز. وحاصل الأمرين اللعب والهزل والمزاح في حقوق الله غير جائز فيكون جد القول في حقوقه وهزله سواء بخلاف جانب العباد، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأعرابي يمازحه: { من يشتري مني العبد ؟ فقال: تجدني رخيصا. فقال: بل أنت عند الله غال } وقصد النبي صلى الله عليه وسلم أنه عبد الله والصيغة صيغة استفهام، فلا يضر، لأنه يمزح ولا يقول إلا حقا، ولو أن أحدا قال على سبيل المزاح: من يتزوج امرأتي، ونحو ذلك لكان من أقبح الكلام، بل قد عاب الله من جعل امرأته كأمه. وكان عمر رضي الله عنه يضرب من يدعو امرأته أخته. وجاء ذلك في حديث مرفوع، وإنما جاز ذلك لإبراهيم صلى الله عليه وسلم عند الحاجة لا في المزاح، فإذا كان المزاح في البيع في غير محله جائزا، وفي النكاح ومثله لا يجوز فظهر الفرق. ومما يوضح ذلك: أن عقد النكاح يشبه العبادات في نفسه بل هو مقدم على النوافل ألا ترى أنه يستحب عقده في المساجد - والبيع قد نهي عنه في المسجد - ولهذا اشترط من اشترط له العربية من الفقهاء إلحاقا له بالأذكار المشروعة مثل الأذان والتكبير في الصلاة والتلبية والتسمية على الذبيحة، ونحو ذلك، ومثل هذا لا يجوز الهزل فيه، فإذا تكلم الرجل فيه رتب الشارع على كلامه حكمه. وإن لم يقصد هو الحكم بحكم ولاية الشارع على العبد، فالمكلف قصد القول والشارع قصد الحكم له فصار الجميع مقصودا. اهـ

وفي الموسوعة الفقهية الكويتية - (37 / 44) : تنفذ تصرفات المازح ( الهازل ) القولية فيقع طلاقه وسائر تصرفاته ظاهرا وباطنا ، لحديث : ثلاث جدهن جد وهزلهن جد؛ الطلاق والنكاح والرجعة، وفي رواية : العتق .

وخص الثلاثة بالذكر في الحديث الشريف ، لتأكد أمر الأبضاع ولتشوف الشارع للعتق وإلا فكل التصرفات كذلك .

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني