الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

العهدة العمرية ومسألة عدم مساكنة اليهود في بيت المقدس

السؤال

سؤالي بخصوص العهدة والشروط العمرية، فقد قرأت جزءا من مقالة لكاتبة بريطانية اسمها كارين آرمِِسْترونج تمدح فيها عدالة سيدنا عمر ـ رضي الله عنه ـ مع أهل الكتاب عند فتح إيليا، وقالت إن النصارى رفضوا أن يسكن معهم اليهود، لكن سيدنا عمر دعا 70 عائلة يهودية للعودة إلى إيليا، ونص العهدة إن لم أخطئ يقول شيئا آخر فهلا أفهمتوني؟ وما كان وضع اليهود حينها؟ أما بخصوص الشروط: فهل كانت المبادرة في كتابتها من النصارى أنفسهم وذلك بعد كتاب العهدة العمرية؟ أم سيدنا عمر من طلب منهم كتابة هذه الشروط؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فالعهد العمري لأهل إيلياء عهد مشهور، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم جملة من شروطه وقال: هذه الشروط أشهر شيء في كتب الفقه والعلم وهي مجمع عليها في الجملة بين العلماء من الأئمة المتبوعين وأصحابهم وسائر الأئمة. اهـ.

هذا من حيث الجملة، ولكن لا بد من التنبه إلى أن نص العهدة وشروطها مما يختلف فيه النقل، فلا يثبت كل شرط بعينه إلا إن صح به الإسناد، وشرط عدم مساكنة اليهود للنصارى في بيت المقدس لم يثبت إسناده، بل ذكره الطبري ومن تبعه بغير إسناد، فقال في تاريخ الأمم 2ـ 449: وعن خالد وعبادة قالا: صالح عمر أهل إيلياء بالجابية وكتب لهم فيها الصلح لكل كورة كتابا واحدا ما خلا أهل إيلياء: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود. اهـ.

وقد ذكر الدكتور عبد السلام بن محسن آل عيسى في رسالته دراسة نقدية في المرويات الواردة في شخصية عمر بن الخطاب وسياسته الإدارية ص 1060: هذه العهدة وخرجها، ولكن ما يتعلق باليهود، لم يعزه إلا للطبري، فقال: وهو عند الطبري من غير إسناد، بل قال: وعن خالد وعبادة قالا: ولم أعرف خالدا وعبادة ومتنه مختصر، وفيه أن عمر ـ رضي الله عنه ـ شرط عليهم أن لا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود. اهـ.

وللدكتور شفيق جاسر رئيس قسم التاريخ بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية بحث مفيد، نشر في العدد 62 من مجلة الجامعة، بعنوان: العهدة العمرية ـ ومما قال فيه: تفاوتت هذه العهود في الشروط التي اشترطتها عليهم والحقوق والامتيازات التي ضمنتها لهم, حتى إن نصوص العهد الواحد قد رويت بصيغ مختلفة، وقد كان التحريف، أو التزوير يحدث من قبل أهل الذمة أنفسهم طمعاً في اكتساب حقوق جديدة إضافة إلى الحقوق التي منحهم إياها المسلمون، أو تخفيفاً لبعض الشروط التي اشترطها المسلمون عليهم، وهم في هذا متأكدون بأن ذلك سينطلي على المسلمين، في الأغلب، ذلك أن المسلمين في ذلك العهد المبكر لم يكونوا يحتفظون بنسخ من هذه العهود، حتى إن بعض أهل الذمة قد وضعوا عهوداً ليس لها أصول على الإطلاق، وفي بعض الأحيان كان النصارى خاصة يحرفون في عهودهم عندما يلمسون ضعفاً من المسلمين في بلادهم. اهـ.

وأورد في هذا البحث نصوص هذا العهد العمري من مصادره المختلفة وليس في شيء منها موضوع مساكنة اليهود، إلا في نص الطبري ومجير الدين العليمي المقدسيِ، وقد ذكر عليه بعض الملاحظات منها: أن ما ورد فيهما من تحفظات وشروط قصد بها مصلحة النصارى كالتعهد بعدم هدم الكنائس، وعدم إكراههم على دينهم، وعدم مساكنة اليهود لهم بالقدس وغيرها، يدعو للشك فيهما، ومما يقوي هذا الشك أنهما وردا مفصلين ومطولين، مع أن عهود المدن الأخرى جاءت مختصرة وبسيطة، بالغة البساطة كعهد حمص، ومما يؤكده أيضاً أن الطبري ومجير الدين الذي نقل عنه، أشارا إلى أنه أعطي لأهل القدس في الجابية، مع أن المشهور أنه أعطى لهم في القدس نفسها، كما أن التحفظات المذكورة تنافي الواقع، ولم تذكر الروايات الأولى ما يؤيدها ومن المحتمل أن هذا العهد قد وضع في فترة لاحقة حيث يذكر الدكتور عبد العزيز الدوري: أن الأمر لم يخل من ادعاءات يهودية، كما تدعي رواية يهودية بأن اليهود طلبوا من عمر بن الخطاب السماح لهم باستقدام مائتي عائلة يهودية من مصر للسكن في القدس، ولكن البطريق صفرونيوس عارض ذلك، فسمح عمر بن الخطاب لسبعين عائلة بالحضور من مصر وأسكنهم جنوب الحرم القدسي، ويسهل كشف كذب هذا الادعاء ببساطة، فمصر قد فتحت بعد فتح القدس بأربع سنوات، ومن المحتمل أن عبارٍة: أن لا يساكنهم فيها اليهود ـ المذكورة في النصين إنما تدل على أن القدس ـ كما هو معلوم تاريخيا ـ كانت خالية من اليهود، ولم يشأ النصارى أن يسكنها اليهود من جديد تحت حكم المسلمين، وليس كما فسرها اليهود من أن اليهود كانوا يسكنون في القدس, واشترط النصارى على المسلمين إخراجهم منها. اهـ.

وجدير بالذكر أن النص المعتمد لهذا العهد لدى كنيسة القدس الأرثوذكسية - والذي نشـرتـه بطريركية الروم الأرثوذكس ـ غير ثابت وقد أورده الشيخ مشهور آل سليمان في كتابه: كتب حذر منها العلماء 2 ـ 242 ـ في الكتب المنحولة، بعنوان: العهدة العمرية للبطرك صوفروفينوس.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني