الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

هناك شبهة يرددها كثيرا النصارى، فأرجو من فضيلتكم التفصيل في الرد عليها ليطمئن قلبي: وهي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا أن يقتل رجلا كان يتهم بأم ولده دون أن يتبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر، فذهب علي ـ رضي الله عنه ـ لينفذ ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل هذا الرجل المظلوم البريء، فهل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتله حقا كما هو واضح في الحديث؟ أم هو ـ كما قال بعض العلماء ـ تخويف فقط كما حدث في قصة عثمان، وإن كان كذلك فأين الدليل على أنه كان تخويفا فقط؟ لأنه لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من ذهب إلى الرجل ليقتله لقلنا من الممكن أن يقصد من الأمر التخويف فقط ، لكن الحديث يقول إنه قال لعلي اذهب واقتله، ولو أن سترة الرجل لم تقع لكن من الممكن أن يقتل علي الرجل البريء من غير ذنب أليس كذلك؟ وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل هذا الرجل كما في صحيح مسلم عن أنس أن رجلا كان يتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي اذهب فاضرب عنقه، فأتاه علي فإذا هو في ركي يتبرد فيها، فقال له علي اخرج، فناوله يده فأخرجه، فإذا هو مجبوب ليس له ذكر، فكف علي عنه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه لمجبوب ما له ذكر، وقد تكلم عليه ابن القيم في الزاد فحمله على التخويف، وشبهه بقول سليمان للمرأتين اللتين اختصمتا إليه في الولد ائتني بالسكين حتى أشق الولد بينهما فقال: تأوله بعضهم على أنه لم يرد حقيقة القتل، إنما أراد تخويفه ليزدجر عن مجيئه إليها، قال: وهذا كما قال سليمان للمرأتين اللتين اختصمتا إليه في الولد بالسكين حتى أشق الولد بينهما ولم يرد أن يفعل ذلك، بل قصد استعلام الأمر من القول، ولذلك كان من تراجم الأئمة على هذا الحديث الحاكم يوهم خلاف الحق ليتوصل به إلى معرفة الحق، فأحب رسول الله أن يعرف براءته وبراءة مارية، وعلم أنه إذا عاين السيف كشف عن حقيقة حاله، فجاء كما قدره رسول الله، وأحسن من هذا أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا ـ رضي الله عنه ـ بقتله تعزيرا لإقدامه على خلوته بأم ولده فلما تبين لعلي حقيقة الحال وأنه بريء من الريبة كف عنه واستغنى عن القتل بتبيين الحال، والتعزير بالقتل ليس بلازم كالحد، بل هو تابع دائر معها وجودا وعدما. انتهى.

وقال الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في الصارم المسلول: ثم إن من نكح أزواجه أو سراريه فإن عقوبته القتل جزاء له بما انتهك من حرمته، فالشاتم له أولى، والدليل على ذلك ما روى مسلم في صحيحه عن زهير عن عفان عن حماد عن ثابت عن أنس: أن رجلا كان يتهم بأم ولد النبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي اذهب فاضرب عنقه فأتاه علي فإذا هو ركي يتبرد فقال له علي اخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف علي ثم أتى النبي فقال يارسول الله إنه لمجبوب ماله ذكر ـ فهذا الرجل أمر النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه لما قد استحل من حرمته ولم يأمر بإقامة حد الزنى، لأن حد الزنى ليس هو ضرب الرقبة، بل إن كان محصنا رجم وإن كان غير محصن جلد ولا يقام عليه الحد إلا بأربعة شهداء أو بالاقرار المعتبر، فلما أمر النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه من غير تفصيل بين أن يكون محصنا أو غير محصن علم أن قتله لما انتهكه من حرمته. اهـ.

وقد حمله بعض أهل العلم على أنه كان معاهدا وانتقض عهده بدخوله على مارية أو على أنه كان منافقا ومستحقا للقتل بطريق آخر أو على أنه كان بريئا فأراد صلى الله عليه وسلم إظهار براءته، ففي شرح النووي على صحيح مسلم: ذكر في الباب حديث أنس أن رجلا كان يتهم بأم ولده فأمر عليا ـ رضى الله عنه ـ أن يذهب يضرب عنقه فذهب فوجده يغتسل في ركي وهو البئر فرآه مجبوبا فتركه، قيل لعله كان منافقا ومستحقا للقتل بطريق آخر وجعل هذا محركا لقتله بنفاقه وغيره لا بالزنى وكف عنه علي ـ رضى الله عنه ـ اعتمادا على أن القتل بالزنى وقد علم انتفاء الزنى والله أعلم. انتهى.

وقال الصالحي في سبل الهدى والرشاد: قال الحضيري: إن الحديث قد استشكله جماعة من العلماء، حتى قال ابن جرير: يجوز أن يكون المذكور من أهل العهد، وفي عهده أن لا يدخل على مارية، فقال: ودخل عليها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لنقض عهده، وقال النووي تبعا للقاضي: قيل لعله كان منافقا ومستحقا للقتل بطريق آخر، وجعل هذا محركا لقتله بنفاقه وغيره لا بالزنا، وكف عنه علي اعتمادا على أن القتل بالزنا وقد علم انتفاء الزنا، وفيه نظر أيضا، لأنا نعتبر نفي ظن الزنا من مارية، فإنه لو أمر بقتله بذلك، لأمر بإقامة الحد عليها أيضا، ولم يقع ذلك معاذ الله أن يختلج ذلك في خاطره أو يتفوه به وأحسن ما يقال في الجواب عن هذا الحديث، ما أشار إليه أبو محمد بن حزم في الإيصال إلى فهم كتاب الخصال، فانه قال: من ظن أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتله حقيقة بغير بينة ولا إقرار فقد جهل، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنه بريء مما نسب إليه ورمي به، وأن الذي ينسب إليه كذب، فأراد صلى الله عليه وسلم إظهار الناس على براءته يوقفهم على ذلك مشاهدة، فبعث عليا ومن معه فشاهدوه مجبوبا - أي مقطوع الذكر - فلم يمكنه قتله لبراءته مما نسب إليه، وجعل هذا نظير قصة سليمان في حكمه بين المرأتين المختلفتين في الولد، فطلب السكين ليشقه نصفين إلهاما، ولظهور الحق، وهذا حسن. انتهى كلام الحضيري.

والجدير بالملاحظة أن النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي من السماء، ولا ينطق عن الهوى، وهو معصوم من الكبائر، ولا يقر على الخطأ، وبالتالي فلا يقاس قوله وفعله على قول أو فعل غيره.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني