الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الجهة لفظ مجمل يحتمل حقا وباطلا

السؤال

كنت أريد أن أسأل عن معنى: يخافون ربهم من فوقهم ـ وأيضا حديث السيدة عائشة: بل يراني الله من فوق سبع سماوات ـ فنحن أهل السنة نثبت ما أثبته الله لنفسه بغير تكييف أو تشبيه، ولكني سمعت شبهات كثيرة تقول إن العلو لله يعني إثبات الجهة له، والجهة مخلوقة فكيف ذلك؟ وهل كلمة أن الله فوقنا تحد منه أو تحدده بجهة؟ أرجو الإفادة، لأنني مشتتة في هذا الأمر، وشكرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن أهل السنة يعتقدون أن الله تعالى فوق خلقه عالٍ عليهم بائن منهم، أما مسألة الجهة هذه: فقد قال القرطبي في تفسيره بعد ذكر كلام المتكلمين في الجهة: وقد كان السلف الأول ـ رضي الله عنهم ـ لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى، كما نطق كتابه وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة. اهـ.

وقد بين شيخ الإسلام في أكثر من موضع من كتبه أن الجهة لفظ مجمل يحتمل حقاً وباطلاً والسبيل فيما هذا شأنه من الألفاظ أن يستفصل عن معناه، فإن كان باطلاً رد، وإن كان حقاً قبل وعبر عنه باللفظ الشرعي، وإليك شيء من كلامه ـ رحمه الله ـ فقد قال في منهاج السنة النبوية: وكذلك الكلام في لفظ الجهة، فإن مسمى لفظ الجهة يراد به أمر وجودي كالفلك الأعلى ويراد به أمر عدمي كما وراء العالم، فإذا أريد الثاني أمكن أن يقال كل جسم في جهة، وإذا أريد الأول امتنع أن يكون كل جسم في جسم آخر، فمن قال: الباري في جهة وأراد بالجهة أمراً موجوداً فكل ما سواه مخلوق له ومن قال إنه في جهة بهذا التفسير فهو مخطئ، وإن أراد بالجهة أمراً عدمياً وهو ما فوق العالم، وقال إن الله فوق العالم فقد أصاب وليس فوق العالم موجود غيره فلا يكون سبحانه في شيء من الموجودات، وأما إذا فسرت الجهة بالأمر العدمي فالعدم لا شيء، وهذا ونحوه من الاستفسار وبيان ما يراد باللفظ من معنى صحيح وباطل يزيل عامة الشبه. انتهى.

وقال أيضاً في مجموع الفتاوى: وقد أخبرنا أيضاً أنه قد استوى على العرش، فهذه النصوص يصدق بعضها بعضا والعقل أيضاً يوافقها ويدل على أنه سبحانه مباين لمخلوقاته فوق سماواته، وأن وجود موجود لا مباين للعالم ولا محايث له محال في بديهة العقل، فإذا كانت الرؤية مستلزمة لهذه المعاني، فهذا حق وإذا سميتم أنتم هذا قولاً بالجهة وقولا بالتجسيم لم يكن هذا القول نافيا لما علم بالشرع والعقل إذا كان معنى هذا القول والحال هذه ليس منتفياً لا بشرع ولا عقل، ويقال لهم ما تعنون بأن هذا إثبات للجهة والجهة ممتنعة أتعنون بالجهة أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً، فإن أردتم أمراً وجودياً وقد علم أنه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق والله فوق سماواته بائن من مخلوقاته لم يكن والحالة هذه في جهة موجودة فقولكم إن المرئي لا بد أن يكون في جهة موجودة قول باطل فإن سطح العالم المرئي وليس هو في عالم آخر، وإن فسرتم الجهة بأمر عدمي كما تقولون إن الجسم في حيز، والحيز تقدير مكان وتجعلون ما وراء العالم حيزاً فيقال لكم الجهة والحيز إذا كان أمراً عدمياً فهو لا شيء وما كان في جهة عدمية أو حيز عدمي فليس هو في شيء ولا فرق بين قول القائل هذا ليس في شيء وبين قوله هو في العدم أو أمر عدمي، فإذا كان الخالق تعالى مبايناً للمخلوقات عالياً عليها وما ثم موجود إلا الخالق أو المخلوق لم يكن معه غيره من الموجودات فضلاً عن أن يكون هو سبحانه في شيء موجود يحصره أو يحيط به، فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه، ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة أيضاً وقالوا إنما قابل بدعة ببدعة ورد باطلا بباطل. انتهى.

هذا وينبغي لطالب العلم أن يدرس النصوص الشرعية ويتعلمها ويبتعد عن إيراد الشبه على قلبه، لئلا تسبب له الزيغ، فقد قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة: وقال لي شيخ الإسلام ـ رضي الله عنه ـ وقد جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات ـ أو كما قال ـ فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك، وإنما سميت الشبهة شبهة لاشتباه الحق بالباطل فيها، فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل. انتهى.

وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 6707، 76111، 66332.

فقد بينا فيها أن منهج أهل السنة اعتقاد إثبات علو الله تعالى واستوائه على عرشه، وضمنا هذه الفتوى أدلتهم ونقل بعض أهل العلم إجماع السلف على ذلك.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني