الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المحرمات التي يكفر من استحلها

السؤال

ما حكم من استحل الأمور الآتية؟.
1ـ السب.
2ـ عدم الاطمئنان في الصلاة.
3ـ عدم الطهارة في الصلاة.
4ـ ترك التشهد الأوسط.
وهل هي من المعلومات من الدين ضرورة؟ وشكرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالمحرمات التي يكفَّر باستحلالها هي ما أُجمِع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين، بحيث لا يكون فيه تأويل ولا شبهة قال ابن قدامة في المغني: من اعتقد حل شيء أجمع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين، وزالت الشبهة فيه، للنصوص الواردة فيه، كلحم الخنزير والزنى وأشباه هذا، مما لا خلاف فيه، كفر، وإن استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل، فكذلك، وإن كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين وأموالهم، وفعلهم لذلك متقربين به إلى الله تعالى، وكذلك لم يحكم بكفر ابن ملجم مع قتله أفضل الخلق في زمنه، متقربا بذلك ولا يكفر المادح له على هذا المتمني مثل فعله، فإن عمران بن حطان قال فيه يمدحه لقتل علي:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ عند الله رضوانا

إني لأذكره يوما فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا

وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم، واستحلال دمائهم وأموالهم، واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم، ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم، لتأويلهم، وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا، وقد روي أن قدامة بن مظعون شرب الخمر مستحلا لها، فأقام عمر عليه الحد، ولم يكفره، وكذلك أبو جندل بن سهيل وجماعة معه شربوا الخمر بالشام مستحلين لها، مستدلين بقول الله تعالى: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا { المائدة: 93} الآية، فلم يكفروا، وعرفوا تحريمها فتابوا، وأقيم عليهم الحد، فيخرج فيمن كان مثلهم مثل حكمهم، وكذلك كل جاهل بشيء يمكن أن يجهله، لا يحكم بكفره حتى يعرف ذلك، وتزول عنه الشبهة، ويستحله بعد ذلك. اهـ.

وأما المعلوم من الدين بالضرورة: فهو الأمر المقطوع به الذي يجد الإنسان نفسه مضطراً إلى التصديق به، لكثرة النصوص الواردة فيه وتواترها ونقل العامة والخاصة لهذه النصوص، أو لنقلهم الحكم الذي دلّت عليه، ولا يجد الإنسان في قلبه أدنى شبهة. اهـ من تسهيل العقيدة الإسلامية للدكتور عبد الله بن عبد العزيز الجبرين.

وهذا معناه أنه لا يكون الحكم معلوما من الدين بالضرورة إلا إذا كان ظاهرا ظهورا يشترك في معرفته الخواص والعوام، قال النووي في روضة الطالبين: أطلق الإمام الرافعي القول بتكفير جاحد المجمع عليه، وليس هو على إطلاقه، بل من جحد مجمعا عليه فيه نص، وهو من أمور الإسلام الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخواص والعوام، كالصلاة أو الزكاة أو الحج، أو تحريم الخمر أو الزنا، ونحو ذلك، فهو كافر، ومن جحد مجمعا عليه لا يعرفه إلا الخواص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، وتحريم نكاح المعتدة، وكما إذا أجمع أهل عصر على حكم حادثة، فليس بكافر، للعذر، بل يعرف الصواب ليعتقده ومن جحد مجمعا عليه ظاهرا لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف. اهـ.

وذلك لأن ما لا نص فيه لا يستلزم جحده أو استحلاله تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يُحكم بالكفر في مثل ذلك، لكونه يستلزم التكذيب، جاء في شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع: جاحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة ـ وهو ما يعرف منه الخواص والعوام من غير قبول للتشكيك، فالتحق بالضروريات، كوجوب الصلاة والصوم وحرمة الزنا والخمر ـ كافر قطعا، لأن جحده يستلزم تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم فيه. اهـ.

وقال الشيخ صالح آل الشيخ في شرح كشف الشبهات في بيان المسائل المعلومة من الدين بالضرورة: التي لا يُحتاج في إثباتها لاستدلال، بل هي شائعة في المسلمين مثل وجوب الصلوات الخمس ووجوب الزكاة في الجملة وتحريم الزنى وتحريم الخمر وأشباه ذلك، فإنه لا يحتاج إلى دليل، لأن كل مسلم نشأ على الإسلام أو دخل في الدين وفهمه فإنه يقر بوجوب هذه ويحرم تلك المحرمات، فليست مما تقع في الشبهة. اهـ.

ولذلك أخرج طائفة من العلماء المعلوم بالضرورة من حد علم الفقه، حيث يفتقر إلى نظر واستدلال، قال ابن عابدين في حاشيته: المعلوم من الدين بالضرورة مثل الصوم والصلاة، قيل: إنه ليس من الفقه، إذ ليس حصوله بطريق الاستدلال. اهـ.

ولذلك أيضا كان التقليد فيه مستحيلا، قال النفراوي في الفواكه الدواني: جميع الفروع المعلومة من الدين بالضرورة كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان وتحريم نحو الخمر والسرقة مما يستحيل فيه التقليد لاستواء العوام والخواص فيه. اهـ.

والمقصود هو التأصيل للقاعدة التي يبنى عليها حكم من استحل ترك شريعة من شرائع الإسلام، فلا يكفَّر إلا إذا آل أمره لتكذيب الشريعة أو جحد الثابت منها، وذلك لا يكون إلا في الظاهر المشتهر المجمع عليه، الذي لا يكون فيه تأويل أو شبهة وإذا تقرر هذا، عُلم أنه يختلف باختلاف أحوال الناس زمانا ومكانا، فالظاهر المشتهر في زمان أو مكان قد يخفى في غيرهما ، وراجع الفتوى رقم: 135921.

قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم: في الجملة فما ترك الله ورسولُه حلالاً إلا مُبيَّناً ولا حراماً إلاَّ مبيَّناً، لكن بعضَه كان أظهر بياناً من بعض، فما ظهر بيانُه واشتهرَ وعُلِمَ من الدِّين بالضَّرورة من ذلك لم يبق فيه شكٌّ، ولا يُعذر أحدٌ بجهله في بلدٍ يظهر فيه الإسلام، وما كان بيانُه دونَ ذلك، فمنه ما اشتهر بين حملة الشريعة خاصة، فأجمع العلماء على حله أو حرمته وقد يخفى على بعض من ليس منهم، ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة أيضاً، فاختلفوا في تحليله وتحريمه. اهـ.

وأما تنزيل ذلك على الأمور التي ذكرها السائل، فالأول: السب، فإن كان المراد به سباب الناس وشتمهم، فهذا قد يجهل حكمه وقد سَأل أعلمُ الأمة بالحلال والحرام معاذُ بن جبل رسول اللهَ صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح ـ وابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني.

وقد تختلف كذلك أعراف الناس وعاداتهم في تعيين ما هو سب مما ليس كذلك، وعلى أية حال، فما كان سبا بإجماع الناس وقد اشتهر بينهم العلم بحرمته، فاستحلاله بغير تأويل ولا شبهة كفر، قال المناوي في فيض القدير: مستحل سب المؤمن بغير تأويل يكفر. اهـ.

وأما إن كان المراد بالسب سب الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا كفر مجرد، ظاهرا وباطنا، سواء علم أن السب كفر أو جهل ذلك، وسواء استحل ذلك أو لم يستحل، وسواء قصد الكفر بذلك أو لم يقصده، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهرا وباطنا، وسواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلا له، أو كان ذاهلا عن اعتقاده. اهـ.

وراجع تفصيل ذلك في الفتوى رقم: 137051.

وأما إن كان المراد: سب الصحابة الكرام ـ رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم ـ فمنه ما يكفر فاعله، استحله أو لم يستحله، ومنه ما يفسق به، وراجع في ذلك الفتويين رقم: 2429، ورقم: 56164.

وأما الطمأنينة في الصلاة: فمما اختلف أهل العلم في حكمه، وليس ذلك من المعلوم من الدين بالضرورة، وراجع في حكمها الفتوى رقم: 134277.

وبالتالي، لا يكفر من استحل تركها.

وأما الطهارة في الصلاة: فإن كان المراد بها طهارة الحدث بالغسل أو الوضوء من حيث الجملة، فاستحلال الصلاة بدون ذلك كفر، ولا يقبل عذر من فعل ذلك في بلد تظهر فيه أحكام الإسلام ولا يجهل في مثلها فرضية الصلاة والطهارة لها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الطهارة من الجنابة فرض، ليس لأحدٍ أن يصلي جُنُباً، ولا محدثا حتى يتطهر، ومَن صلَّى بغير طهارة شرعية مستحلا لذلك فهو كافر، ولو لم يستحل ذلك، فقد اختلف في كفره، وهو مستحق للعقوبة الغليظة. اهـ.

وإن كان المراد بذلك الطهارة من الخبث، فليس هذا مما أجمع عليه، فلا يحكم بكفر مستحلها، وراجع الفتوى رقم: 6115.

وكذلك التشهد الأول مما اختلف أهل العلم في حكمه، وراجع في ذلك الفتويين رقم: 59826، ورقم: 25962.

فلا يكفر من استحل الصلاة بدونه.

وأخيرا: نود أن نلفت نظر الأخ السائل إلى أننا نستشعر من سؤاله هذا وغيره من أسئلته السابقة أنه يعاني من شيء من الوسوسة في هذا الباب، فإن كان كذلك فعليه أن يدفع هذا عن نفسه، ولا يجعل للشيطان عليه سبيلا، فإن الوسوسة مرض شديدة من كيد الشيطان فلا يفتح بابه على نفسه بالتعمق في ذلك.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني