الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يكفر من اعتقد أن البيرة ليست خمرا

السؤال

ما حكم من يعتقد أن البيرة ليست خمرا؟ وهل يكفر بذلك؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فمن البيرة ما هو خال من الكحول فلا يسكر تناوله فهذا مباح لا حرج في تناوله البتة، ومنها ما هو مخلوط بالكحول بحيث يسكر تناوله، فهذا لا يجوز تعاطيه، لأنه خمر، وما أسكر منه الفرق، فملء الكف منه حرام، وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله: هل يجوز شرب البيرة التي كتب عليها خالية من الكحول؟ فأجاب: نعم، إذا سلمت فلا بأس، وهذا المشهور المعروف، أما إن علم أنها تسكر فلا يشربها. انتهى.

وعليه، فإن كان هذا الشخص يستحل شرب البيرة التي تعد خمرا فهو مخطئ خطئا عظيما، ولكنه لا يكفر بذلك، فإنه لما كان بعض العلماء قائلا بأن الخمر ليست إلا ما اتخذ من عصير العنب خاصة فلا يحرم ما عداها من الأنبذة وإن كان مسكرا ما لم يصل إلى حد الإسكار وكان قائل هذا القول من أجلاء العلماء متأولا فيما ذهب إليه لم تكن هذه المسألة من مسائل التكفير وإن كنا نجزم بخطأ المخالف فيها وأنها من الزلات التي لا تجوز متابعته عليها، قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله: أَمَّا الْخَمْرُ الَّتِي هِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ الَّذِي إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ فَيَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ نَقَلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إبَاحَةَ قَلِيلِ ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ، بَلْ مَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، إلى أن قال: وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ فِي سَائِرِ الْمُسْكِرِ كَالْمِزْرِ الَّذِي يُصْنَعُ مِنْ الْقَمْحِ وَنَحْوِهِ: فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ عِنْدَنَا شَرَابًا يُقَالُ لَهُ: الْبِتْعُ ـ مِنْ الْعَسَلِ، وَشَرَابًا مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ: الْمِزْرُ ـ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ فَهُوَ حَرَامٌ ـ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ ـ وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ـ وَفِي السُّنَنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ ـ وَاسْتَفَاضَتْ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَابٌ يَشْرَبُونَهُ إلَّا مِنْ التَّمْرِ، فَكَانَتْ تِلْكَ خَمْرَهُمْ، وَجَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ ـ وَالْمُرَادُ بِهِ النَّبِيذُ الْحُلْوُ، وَهُوَ أَنْ يُوضَعَ التَّمْرُ أَوْ الزَّبِيبُ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَحْلُوَ ثُمَّ يَشْرَبَهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَاهُمْ أَنْ يَنْتَبِذُوا فِي الْقَرْعِ وَالْخَشَبِ وَالْحَجَرِ وَالظَّرْفِ الْمُزَفَّتِ، لِأَنَّهُمْ إذَا انْتَبَذُوا فِيهَا دَبَّ السُّكْرُ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَيَشْرَبُ الرَّجُلُ مُسْكِرًا، وَنَهَاهُمْ عَنْ الْخَلِيطَيْنِ مِنْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ جَمِيعًا، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُقَوِّي الْآخَرَ، وَنَهَاهُمْ عَنْ شُرْبِ النَّبِيذِ بَعْدَ ثَلَاثٍ، لِأَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ فِيهِ السُّكْرُ وَالْإِنْسَانُ لَا يَدْرِي، كُلُّ ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ اعْتَقَدَ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النَّبِيذَ الَّذِي أَرْخَصَ فِيهِ يَكُونُ مُسْكِرًا يَعْنِي مِنْ نَبِيذِ الْعَسَلِ وَالْقَمْحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَالَ: يُبَاحُ أَنْ يُتَنَاوَلَ مِنْهُ مَا لَمْ يُسْكِرْ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَأَمَّا جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ فَعَرَفُوا أَنَّ الَّذِي أَبَاحَهُ هُوَ الَّذِي لَا يُسْكِرُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ فِي النَّصِّ، وَالْقِيَاسِ، وَأَمَّا النَّصُّ فَالْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ فِيهِ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ، فَلِأَنَّ جَمِيعَ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي كَوْنِهَا تُسْكِرُ، وَالْمَفْسَدَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي هَذَا مَوْجُودَةٌ فِي هَذَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، بَلْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ الْعَدْلِ وَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ. انتهى.

فتبين لك ماهية الخمر التي يكفر مستحلها، وهي المسكر من عصير العنب قليله وكثيره وكذا استحلال السكر من غير عصير العنب، وأما ما وقعت فيه الشبهة وقال بحله بعض العلماء فليس من مسائل التكفير وإن كان القائل مخطئا مخالفا للنص والقياس كما مر.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني