الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التدرج في تطبيق الشريعة .. رؤية شرعية واقعية

السؤال

العلماء الأفاضل. يبيح بعض الدعاة المحرمات كتأخير تطبيق الحدود وفرض اللباس الشرعي، وإغلاق الخمارات حتى تتهيأ الظروف والمناسبات لوضع تلك الأحكام موضع التنفيذ، وذهبوا إلى ذلك بحجة التدرج ومن بعض استدلالاتهم روايتين عن
عمر بن عبد العزيز، أما أولاهما فقد دخل على أبيه يوماً, وقال:(يا أبت ما لك لا تنفذ الأمور؟!, فوالله ما أُبالي لو أن القدور قد غَلَتْ بي وبك في الحق) فأجابه:( لا تعجل يا بني؛ فإن الله قد ذمَّ الخمر في القرآن مرتين, وحَرَّمها في الثالثة, وإني أخاف أن أحمل الحقَّ على الناس جملةً, فيدفعوه جملةً, ويكون من هذا فتنة).
وأما الأخرى؛ فإن عبد الملك لمَّا لم يُطِبقْ منهج والده في التغيير دخل عليه ثانية، وقال:( يا أمير المؤمنين: ما أنت قائل لربِّك غداً إذا سألك فقال: رأيتَ بدعةً فلم تُمِتْها, أو سنةً فلم تُحْيِها؟!) فأجابه والده:( رحمك الله, وجزاك من ولدٍ خيراً, يا بني؛ إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدةً عقدةً, وعروةً عروةً, ومتى أردتُ مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمَنْ أن يفتقوا علي فتقاً يكثر فيه الدماء, والله لزوال الدنيا أهون عليَّ من أن يُراقَ في سببي محجمة من دمٍ, أَوَ ما ترضى ألَّا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت بدعة, ويُحيي سنة).
فما هي صحة تلك الروايات ؟ وفيما لو صحت هل تعتبر اجتهادا شرعيا ً لمجتهد يجوز تقليده ؟
وجزاكم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فليس هذا من باب إباحة المحرمات، كما وصف الأخ السائل، وإنما هو ـ عند من يقول به ـ من باب التدرج ومراعاة الأحوال، وهذا يقبل منه ما كان معتمدا على ميزان القدرة والعجز، فإن الله تعالى لا يكلف إلا بالوسع، والواجبات تسقط بالتعذر، فما قدر على تنفيذه من أحكام الشريعة من غير مفسدة راجحة وجب تنفيذه فورا ودفعة واحدة، بخلاف ما لا يقدر عليه، أو كان في تطبيقه مفسدة راجحة. وراجع في ذلك الفتويين: 172543، 163027.
وهذا ظاهر في الأثرين المذكورين في السؤال، ففيهما مراعاة القدرة، ودرء أشد المفسدتين باحتمال أدناهما، ففي الأول منهما قوله: "إني أخاف أن أحمل الحقَّ على الناس جملةً, فيدفعوه جملةً". وفي الثاني منهما قوله: "لم آمَنْ أن يفتقوا علي فتقاً يكثر فيه الدماء".
وأما من ناحية إسناد هذين الأثرين، فالأول لم نجده مسندا، وإنما ذكره ابن عبد ربه في (العقد الفريد) في ذكره لخلافة عمر بن عبد العزيز، فقال: "زياد عن مالك قال: قال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه: يا أبت، مالك لا تنفذ الأمور؟ فو الله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق! قال له عمر: لا تعجل يا بنيّ؛ فإنّ الله ذمّ الخمر في القرآن مرتين وحرّمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعونه جملة ويكون من ذلك فتنة".
وذكره بعده الشاطبي في (الموافقات) مستدلا به على هذا المعنى، فقال: ربما تفاوت الأمر فيها بحسب قدرة المكلف على الدوام فيما دخل فيه وعدم قدرته، فمن لا يقدر على الوفاء بمرتبة من مراتبه لم يؤمر بها، بل بما هو دونها، ومن كان قادرا على ذلك كان مطلوبا .. فلهذا المعنى بعينه وضعت العمليات على وجه لا تخرج المكلف إلى مشقة يمل بسببها، أو إلى تعطيل عاداته التي يقوم بها صلاح دنياه .. ومن هنا كان نزول القرآن نجوما في عشرين سنة، ووردت الأحكام التكليفية فيها شيئا فشيئا ولم تنزل دفعة واحدة، وذلك لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة. وفيما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك قال له: "ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق". قال له عمر: "لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة". وهذا معنى صحيح معتبر في الاستقراء العادي .. اهـ.
وعنه نقله الدكتور محمد عبد الله دراز في رسالته للدكتوراة (دستور الأخلاق في القرآن) والشيخ خليل الميس في بحثه (سبل الاستفادة من النوازل) والمنشور في العدد الثاني عشر من (مجلة مجمع الفقه).
وقريب منه ما ذكره ابن عبد الحكم في (سيرة عمر بن عبد العزيز) حيث قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز قال له ابنه عبد الملك: إني لأراك يا أبتاه قد أخرت أمورا كثيرة كنت أحسبك لو وليت ساعة من النهار عجلتها، ولوددت أنك قد فعلت ذلك ولو فارت بي وبك القدور. قال له عمر: أي بني إنك على حسن قسم الله لك وفيك بعض رأي أهل الحداثة، والله ما أستطيع أن أخرج لهم شيئا من الدين إلا ومعه طرف من الدنيا أستلين به قلوبهم؛ خوفا أن ينخرق علي منهم ما لا طاقة لي به. اهـ.
وأما الأثر الثاني فأخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء في ترجمة عمر، وذكره ابن الجوزي في (سيرة عمر) والسيوطي في (تاريخ الخلفاء).
وقال الدكتور صالح بن حميد في بحثه (تطبيق الشريعة) المنشور في العدد الخامس من (مجلة مجمع الفقه): التدريج أن تكون هناك مراحل كل مرحلة تسلم إلى مرحلة، تريد أن نطبق الشريعة في خلال خمس سنوات أو عشر سنوات. إذن ضعوا خطة زمنية بحيث إنه بعد سنتين نخلص من القانون المدني، وبعد كذا نخلص من مناهج التربية، هذا معنى التدريج، إنما هؤلاء لا يريدون التدريج، يريدون التمويت، فنحن إذا سلمنا بالتدريج، وقد قال به مثل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الذي قال له ابنه الورع التقي عبد الملك: يا أبي ما لي أراك تتباطأ في إنفاذ الأمور؟ والله لا أبالي لو غلت بي وبك القدور في سبيل الله. فقال يا بني: إن الله ذم الخمر في آيتين ثم حرمها في الثالثة، وإني أخشى أن أدفع الناس إلى الحق جملة فيدعوه جملة، ولكن أما ترضى ألاَّ يمر على أبيك يوم إلاَّ وهو يميت فيه بدعة ويحيي سنة؟ فهذا هو التدريج أن تمات كل يوم بدعة وتحيا سنة، أما أن يقولوا بالتدريج ولا يفعلون شيئًا وتمر السنين وراء السنين، وهم في موقعهم، فليس هذا من التدريج في شيء. اهـ.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني