الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

سحر النبي بلاء ورفعة في درجاته

السؤال

قوله تعالى: وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا .
هل هذه الآية الكريمة تنفي (سحر) الرسول صلى الله عليه وسلم؟؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: سَحَرَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَهُودِيّ مِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ. يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ. قَالَتْ: حَتّىَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَيّلُ إِلَيْهِ أَنّهُ يَفْعَلُ الشّيْءَ، وَمَا يَفْعَلُهُ. حَتّىَ إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ، أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ، دَعَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمّ دَعَا. ثُمّ دَعَا. ثُمّ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ أَشَعَرْتِ أَنّ اللّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ جَاءَنِي رَجُلاَنِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالاَخَرُ عِنْدَ رِجْلَيّ. فَقَالَ الّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلّذِي عِنْدَ رِجْلَيّ، أَوِ الّذِي عِنْدَ رِجْلَيّ لِلّذِي عِنْدَ رَأْسِي: مَا وَجَعُ الرّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: مَنْ طَبّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ. قَالَ: فِي أَيّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ. قَالَ وَجُف طَلْعَةِ ذَكَرٍ. قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ". قَالَتْ: فَأَتَاهَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. ثُمّ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ وَاللّهِ لَكَأَنّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنّاءِ. وَلَكَأَنّ نَخْلَهَا رُؤُوسُ الشّيَاطِينِ". قَالَتْ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَفَلاَ أَحْرَقْتَهُ؟ قَالَ: "لاَ. أَمّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِي اللّهُ. وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَىَ النّاسِ شَرّا، فَأَمَرْتُ بِهَا فَدُفِنَتْ.
وقد رد ابن القيم على من رد حديث الصحيحين محتجا بهذه الآية فقال كما في التفسير القيم: وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث متلقى بالقبول بينهم لا يختلفون في صحته، وقد اعتاص على كثير من أهل الكلام وغيرهم وأنكروه أشد الإنكار وقابلوه بالتكذيب، وصنف بعضهم فيه مصنفا مفردا حمل فيه على هشام وكان غاية ما أحسن القول فيه أن قال غلط واشتبه عليه الأمر ولم يكن من هذا شيء، قال لأن النبي لا يجوز أن يسحر فإنه يكون تصديقا لقول الكفار: إن تتبعون إلا رجلا مسحورا { الإسراء: 47} قالوا وهذا كما قال فرعون لموسى: إني لأظنك يا موسى مسحورا {الإسراء: 101} وقال قوم صالح له: إنما أنت من المسحرين {الشعراء: 153} وقال قوم شعيب له: إنما أنت من المسحرين ـ قالوا فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يسحروا، فإن ذلك ينافي حماية الله لهم وعصمتهم من الشياطين، وهذا الذي قاله هؤلاء مردود عند أهل العلم، فإن هشاما من أوثق الناس وأعلمهم ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب رد حديثه فما للمتكلمين وما لهذا الشأن، وقد رواه غير هشام عن عائشة، وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة، والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقهاء، وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله وأيامه من المتكلمين. قالوا: والسحر الذي أصابه كان مرضا من الأمراض عارضا شفاه الله منه ولا نقص في ذلك ولا عيب بوجه ما، فإن المرض يجوز على الأنبياء، وكذلك الإغماء فقد أغمي عليه في مرضه، ووقع حين انفكت قدمه وجحش شقه، رواه البخاري ومسلم، وهذا من البلاء الذي يزيده الله به رفعة في درجاته ونيل كرامته، وأشد الناس بلاء الأنبياء فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به من القتل والضرب والشتم والحبس، فليس ببدع أن يبتلى النبي من بعض أعدائه بنوع من السحر كما ابتلي بالذي رماه فشجه، وابتلي بالذي ألقى على ظهره السلا وهو ساجد وغير ذلك، فلا نقص عليهم ولا عار في ذلك، بل هذا من كمالهم وعلو درجاتهم عند الله، قالوا وقد ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن جبريل أتى النبي فقال يا محمد اشتكيت؟ فقال: نعم، فقال: باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك ـ فعوذه جبريل من شر كل نفس وعين حاسد لما اشتكى. فدل على أن هذا التعويذ مزيل لشكايته وإلا فلا يعوذه من شيء وشكايته من غيره، قالوا: وأما الآيات التي استدللتم بها لا حجة لكم فيها، أما قوله تعالي عن الكفار أنهم قالوا: إن تتبعون إلا رجلا مسحورا {الإسراء: 47} وقوله عن قوم صالح له: إنما أنت من المسحرين { الشعراء: 153} فقيل المراد به من له سحر وهي الرئة أي أنه بشر مثلهم يأكل ويشرب ليس بملك ليس المراد به السحر، وهذا جواب غير مرض وهو في غاية البعد، فإن الكفار لم يكونوا يعبرون عن البشر بمسحور ولا يعرف هذا في لغة من اللغات، وحيث أرادوا هذا المعنى أتوا بصريح لفظ البشر فقالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا. أنؤمن لبشر مثلنا. أبعث الله بشرا رسولا... وأما قولكم إن سحر الأنبياء ينافي حماية الله تعالى لهم فإنه سبحانه كما يحميهم ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم، فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم ليستوجبوا كمال كرامته وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس، فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضوا وتأسوا بهم، ولتمتلئ صاع الكفار فيستوجبون ما أعد لهم من النكال العاجل والعقوبة الآجلة فيمحقهم بسبب بغيهم وعداوتهم فيعجل تطهير الأرض منهم، فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم، وله الحكمة البالغة والنعمة السابغة لا إله غيره ولا رب سواه...اهـ.


والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني