الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مسوغات عدم إنكار المنكر

السؤال

متى يجب عدم النهي عن المنكر ؟
وهناك سؤال آخر: سمعت الخطيب في خطبة الجمعة يقول حديثا وقد فهمت منه أنه إذا نادى المنادي للصلاة يجب أن نذهب إلى المسجد ومن ليس له عذر فلا صلاة له. فماذا في الصلوات التي صليتها جماعة وغير جماعة في البيت بدون عذر ؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فعدم النهي عن المنكر يجب إذا كان النهي عنه يؤدي إلى منكر أعظم منه.

قال ابن القيم رحمه الله: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَعَ لِأُمَّتِهِ إيجَابَ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ لِيَحْصُلَ بِإِنْكَارِهِ مِنْ الْمَعْرُوفِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَإِذَا كَانَ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ يَسْتَلْزِمُ مَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ وَأَبْغَضُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسُوغُ إنْكَارُهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُ أَهْلَهُ، وَهَذَا كَالْإِنْكَارِ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ أَسَاسُ كُلِّ شَرٍّ وَفِتْنَةٍ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ، «وَقَدْ اسْتَأْذَنَ الصَّحَابَةُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِتَالِ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، وَقَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ فَقَالَ: لَا، مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ» وَقَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ مَا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ وَلَا يَنْزعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِ» وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا جَرَى عَلَى الْإِسْلَامِ فِي الْفِتَنِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ رَآهَا مِنْ إضَاعَةِ هَذَا الْأَصْلِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ عَلَى مُنْكَرٍ؛ فَطَلَبَ إزَالَتَهُ فَتَوَلَّدَ مِنْهُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ؛ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرَى بِمَكَّةَ أَكْبَرَ الْمُنْكَرَاتِ وَلَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهَا، بَلْ لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ وَصَارَتْ دَارَ إسْلَامٍ عَزَمَ عَلَى تَغْيِيرِ الْبَيْتِ وَرَدِّهِ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ، وَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ - مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ - خَشْيَةُ وُقُوعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ مِنْ عَدَمِ احْتِمَالِ قُرَيْشٍ لِذَلِكَ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ وَكَوْنِهِمْ حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَأْذَنْ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْأُمَرَاءِ بِالْيَدِ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ وُقُوعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ كَمَا وُجِدَ سَوَاءٌ. فإنكار المنكر أربع درجات، الْأُولَى: أَنْ يَزُولَ وَيَخْلُفَهُ ضِدُّهُ، الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقِلَّ وَإِنْ لَمْ يَزُلْ بِجُمْلَتِهِ، الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ، الرَّابِعَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ؛ فَالدَّرَجَتَانِ الْأُولَيَانِ مَشْرُوعَتَانِ، وَالثَّالِثَةُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وَالرَّابِعَةُ مُحَرَّمَةٌ. انتهى.

وأما الحديث المشار إليه فهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر. رواه ابن ماجه وغيره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ووجوب الجماعة في المسجد قال به بعض العلماء، والمفتى به عندنا أن الجماعة تجزئ في كل مكان كما هو موضح في الفتوى رقم: 128394 ويجاب من جهة من لم يوجب الجماعة في المسجد عن هذا الحديث بما فيه من المقال، وعلى فرض صحته فيتأول بنفي الكمال لا الصحة.

قال الشوكاني رحمه الله في شرح المنتقى: وكذلك تأويل حديث ابن عباس المتقدم بِلَفْظِ: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِ الصَّلَاةَ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ» بِأَنَّ الْمُرَادَ لَا صَلَاةَ لَهُ كَامِلَةً، عَلَى أَنَّ فِي إسْنَادِهِ يَحْيَى بْنَ أَبِي دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ الْمَعْرُوفَ بِأَبِي جِنَابٍ بِالْجِيمِ الْمَكْسُورَةِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ: ضَعِيفٌ وَمُدَلِّسٌ وَقَدْ عَنْعَنَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَقِيٍّ بْنُ مَخْلَدٍ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بِإِسْنَادٍ قَالَ الْحَافِظُ: صَحِيحٌ بِلَفْظِ: مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ " وَلَكِنْ قَالَ الْحَاكِمُ: وَقَفَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ شُعْبَةَ، ثُمَّ أَخْرَجَ لَهُ شَاهِدًا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ بِلَفْظِ: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَارِغًا صَحِيحًا فَلَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ» وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ مَوْقُوفًا. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. وَرَوَاهُ الْعُقَيْلِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَضَعَّفَهُ. وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ مَا أَمْكَنَ هُوَ الْوَاجِبُ. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني