الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تفسير قوله تعالى: والسماء بنيناها بأيد...

السؤال

قال تعالى: "والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون" لماذا جاءت أيد في صيغة الجمع؟
ومن المعروف أننا نثبت الصفات لله عز وجل دون تعطيل أو تمثيل.
أرجو شرح معنى الجمع في هذه الآية.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالأيد هنا ليست جمع يد، وانما هي مصدر من آد يئيد أيدا مثل باع بيعا, ومعناها هو: القوة كما رواه الطبري عن ابن عباس, وسفيان الثوري, وقتادة، وقال أبو حيان في البحر المحيط: بأيد: أي بقوة، قاله ابن عباس, ومجاهد, وقتادة، وهو كقوله: "داود ذا الأيد"

وقال الراغب: قال الله عز وجل: {أيدتك بروح القدس} [المائدة/110] فعلت من الأيد، أي: القوة الشديدة, وقال تعالى: {والله يؤيد بنصره من يشاء} [آل عمران/13] أي: يكثر تأييده، ويقال: إدته أئيده أيدا نحو: بعته أبيعه بيعا، وأيدته على التكثير, قال عز وجل: {والسماء بنيناها بأيد} [الذاريات/47].... اهـ
وقد خطأ الشيخ الأمين الشنقيطي, وابن عثيمين - رحمهما الله تعالى - من جعل الأيد هنا جمعا لليد, فقال الشنقيطي:
تنبيه: قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {بنيناها بأيد}، ليس من آيات الصفات المعروفة بهذا الاسم؛ لأن قوله: {بأيد} ليس جمع يد: وإنما الأيد القوة، فوزن قوله هنا بأيد فعل، ووزن الأيدي أفعل، فالهمزة في قوله: {بأيد} في مكان الفاء والياء في مكان العين، والدال في مكان اللام, ولو كان قوله تعالى: {بأيد} جمع يد لكان وزنه أفعلا، فتكون الهمزة زائدة والياء في مكان الفاء، والدال في مكان العين والياء المحذوفة لكونه منقوصًا هي اللام, والأيد، والآد في لغة العرب بمعنى القوة، ورجل أيد قوي، ومنه قوله تعالى: {وأيدناه بروح القدس} [البقرة:87] أي قويناه به، فمن ظن أنها جمع يد في هذه الآية فقد غلط فاحشا، والمعنى: والسماء بنيناها بقوة. اهـ

وقال ابن عثيمين: يخطئ من يظن أن قوله: (بأيدٍ) جمع يدٍ، وإنما هي مصدر آد يئيد والمصدر أيد، كباع يبيع والمصدر بيع، ولهذا لم يضفها الله إلى نفسه كما أضافها في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً [يس:71] وعلى هذا فلا يجوز أن نعتقد بأن الله خلق السماء بيده أو بأيديه أبدًا، بل أيد مصدر آد يئيد والمصدر أيد، مثل: باع يبيع بيعاً، وكال يكيل كيلاً. اهـ
فإذا عرفت المعنى الصحيح للآية اتضح لك - إن شاء الله - أنه لا تعارض بين كلمة الأيد في الآية المذكورة وبين كوننا نثبت الصفات لله عز وجل دون تعطيل أو تمثيل؛ لأن كلمة الأيد هنا يراد بها القوة، والمسلمون يثبتون القوة لله تعالى, كما تدل له هذه الآية والنصوص الكثيرة الأخرى مثل قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ {الأنفال:52}، وقوله تعالى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ {هود:66}، وقوله تعالى: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {الحج:74}، وقوله تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا {الأحزاب:25}، وقوله تعالى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ {الشورى:19}، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ {الذاريات:58}.
هذا وقد جاء جمع اليد في القرآن بالأيدي, كما في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ {يس:71}، وقد ذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان: أن المراد بالجمع هنا في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ. ( سورة يس71) ذكر أن المراد به التعظيم.
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله: أن ما أضيف إلى اسم الجمع ظاهرا أو مضمرا فالأحسن جمعه مشاكلة للفظ، ومثّل لذلك بجمع العين واليد في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وفي قوله تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ. {سورة القمر14 }, وقال بمثل ذلك ابن أبي العز في شرح الطحاوية.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني