الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

القول بحوادث لا أول لأنواعها لا يستلزم القول بسرمدية الكون

السؤال

إن نظرية الكون الاهتزازي، هو عبارة عن نموذج كوني، تم الإشارة إليها بشكل مختصر من قبل ألبرت أينشتاين في عام 1930، وقد انتقده ريتشارد تولمان في عام 1934, وخصوصاً فكرة الكون الموجود بشكل اهتزازي, أي أنه يبدأ بانفجار عظيم، وينتهي بانكماش عظيم. بعد الانفجار العظيم, يبدأ الكون بالتوسع لمدة قبل أن يحدث تجاذب ثقالي للمادة التي تتسبب بانهيار الكون، أي على شكل ما يُسمى بالارتداد. ويستمر هذا للأبد فيكون سرمدية الكون، ويكون بلا بداية ولا نهاية.
ما أشبه هذا القول بسرمدية الكون بالقول بقدم العالم! ولكن لو فرضنا أنه ممكن أفلا يحتاج هذا النظام إلى خالق يقدره، ويكون مهيمنا عليه ويكون قد برمجه؟ وإذا كان لا بد فهل نكون قد أثبتنا استحالة وجود هذا الكون القديم الأزلي؟
وجاء اكتشاف المادة المظلمة يؤيد ما ذهب إليه الملاحدة من القول بقدم العالم.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد تعددت النظريات في كيفية نشأة هذا الكون، وكلها لا يرقى إلى درجة أن يكون حقيقة علمية يسلم بها أهل الاختصاص بحيث لا تقبل النزاع، وراجع الفتويين: 16975 ، 137126.

وعلى كل فالواجب على المسلم أن يؤمن بالحقيقة التي لا يماري فيها عاقل وهي: أن هذا العالم كله خلق لله تعالى، وأنه سبحانه خلقه بإرادته وقدرته على ما تقتضيه حكمته، وهو سبحانه إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون. ولا يتصور عاقل يدري ما يقول أن هذا الكون الفسيح المتسع، الجاري على هذا النظام العجيب الذي لا ينخرم، لم يوجده خالق حكيم، عليم قدير. قد أحسن كل شيء خلقه، وأنه صنع الله الذي أتقن كل شيء، والعاقل إذا رأى مسمارا قد دق في جدار مثلا فإنه يقطع بأن شخصا ما قد وضعه حيث هو، وأنه إنما وضعه لمعنى كأن ينوط به الأشياء ونحو ذلك، فإذا كان هذا الشأن في مثل مسمار في جدار، فكيف يظن أن هذا العالم الهائل البديع قد أوجد نفسه، أو أنه نشأ من غير تدبير مدبر، له كل صفات الكمال منزه عن كل صفات النقص. وحدوث هذا العالم، وأنه مخلوق كائن بعد أن لم يكن، أمر تشهد به الفطر والعقول السليمة. وهذا الأمر من الظهور بحيث لم ينكره إلا شذاذ من الخلق، وهو أجلى من أن نطيل في تقريره وإيضاحه، وراجع للفائدة كتاب العقيدة في الله للدكتور عمر الأشقر رحمه الله.

وهذه النظرية إن أفادت أن نوع المخلوق قديم، بمعنى أنه ما من مخلوق إلا وقبله مخلوق، وكل مخلوق مسبوق بعدم نفسه وبالخالق، فلا إشكال، وليس هذا مستلزما لقدم العالم كما يظن. ويلزم التفريق بين إثبات حوادث لا أول لنوعها، وبين إثبات حوادث لا أول لأعيانها، فالأول حق، والثاني باطل. والقول بإمكان حوادث لا أول لنوعها هو مقتضى أدلة الكتاب والسنة، ومن عز عليه قبول ذلك فليعتبر الأزل بالأبد، فإن الله تعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، ونحن نعتقد أن أهل الجنة ـ مثلا ـ ينعمون أبدا، وأن الله تعالى يحدث لهم من أنواع النعيم ما لا ينقطع، وهذا لا يتعارض مع آخريَّة الله تعالى، فكذلك فليكن الحال في الأزل، وما قَدَّرْناه مستقبلاً نقَدِّره في الماضي، في النوع لا في العين. وقد أشرنا إلى هذا المعنى من قبل في الكلام على تسلسل الحوادث، فراجع الفتوى رقم: 135105.

وبهذا يتبين للسائل أن القول بحوادث لا أول لأنواعها لا يستلزم القول بسرمدية الكون أو بقدم العالم، بمعنى أنه وجد بلا خالق، أو أن أفراده غير مسبوقة بالعدم!! فالقول بقدم العالم يعني ـ كما يوضح ابن القيم في (الجواب الكافي) ـ : أنه لم يكن معدوما أصلا، بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها، ويسمونها بالعقول والنفوس. اهـ.
وهذا لا إشكال في بطلانه، ولكنه يخالف إثبات قدم نوعي للحوادث.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الصفدية): لفظ القديم والأزلي فيه إجمال، فقد يراد بالقديم الشيء المعين الذي ما زال موجودا ليس لوجوده أول، ويراد بالقديم الشيء الذي يكون شيئا بعد شيء، فنوعه المتوالي قديم، وليس شيء منه بعينه قديما، ولا مجموعه قديم، ولكن هو في نفسه قديم بهذا الاعتبار، فالتأثير الدائم الذي يكون شيئا بعد شيء وهو من لوازم ذاته، هو قديم النوع، وليس شيء من أعيانه قديما، فليس شيء من أعيان الآثار قديما ... اهـ.
وقال في (درء تعارض العقل والنقل): القائلون بقدم العالم قولهم يستلزم امتناع حدوث حادث، فإن القديم إما واجب بنفسه، أو لازم للواجب بنفسه، ولوازم الواجب لا تكون محدثة ولا مستلزمة لمحدث، فالحوادث ليست من لوازمه، وما لا يكون من لوازمه يتوقف وجوده على حدوث سبب حادث، فإذا كان القديم الواجب نفسه، أو اللازم للواجب، لا يصدر عنه حادث - امتنع حدوث الحوادث، وهذا حقيقة قولهم، فإنهم يزعمون أن العالم له علة قديمة موجبة له، وهو لازم لعلته، وعلته عندهم مستلزمة لمعلولها ومعلول معلولها، فيمتنع أن يحدث شيء في الوجود، إذ الحادث المعين يكون لازماً للقديم بالضرورة واتفاق العقلاء. اهـ.
وعلى أية حال فإن الحوادث ذاتها دليل قطعي على وجود محدثها ومدبرها، فإنه لا بد لكل حادث من محدث، كما أشار إليه السائل بقوله: (أفلا يحتاج هذا النظام الى خالق يقدره .. ؟!)

وراجع للفائدة الفتويين: 97683، 22279.

. والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني