الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الأمر بالمعروف وإنكار المنكر.. مشروعيته وفقهه وضوابطه

السؤال

تتكرر علي مئات الهواجس يوميا، خاصة في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لما أراه في الشارع والسوق، وأحدث نفسي بإنكار هذه الأمور، ثم أتراجع؛ لأنني لست مطمئنا لما أفعل، وأن هذا سيوقعني في حرج مع الناس وأتذكر حديث من "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده..." ثم أتراجع وأقول إن هذا منكر شائع ويكفي إنكاره بالقلب، وإذا أنكرت باللسان قد أدخل في عداوات وخصومات مع الآخرين، وأحس بضيق في صدري في ذلك الوقت، وأتذكر حديث أبي ثعلبة الخشني-رضي الله عنه-قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " فقال:(بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه. فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوام...) رواه أبوداود في الملاحم، والترمذي في التفسير.
فأرجو تفصيل أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لا تتحول هذه الفريضة إلى سبب من أسباب المرض النفسي في هذا الزمان الفاسد.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعائر الدين العظيمة، وهو من فروض الكفايات، ويتعين في بعض الأحوال على بعض الناس بحسب القدرة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه، بل هو على الكفاية، كما دل عليه القرآن، ولما كان الجهاد من تمام ذلك كان الجهاد أيضاً كذلك، فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه أثم كل قادر بحسب قدرته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه". انتهى.
ويقول ابن رجب الحنبلي: وسمع ابن مسعود رجلاً يقول: هَلَكَ مَنْ لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر، فقال ابنُ مسعود: هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر. يشير إلى أنَّ معرفة المعروفِ والمنكرِ بالقلب فرضٌ لا يسقط عن أحد، فمن لم يعرفه هَلَكَ. وأمَّا الإنكارُ باللسان واليد، فإنَّما يجبُ بحسب الطاقةِ، وقال ابنُ مسعود: يوشك مَنْ عاش منكم أن يرى منكراً لا يستطيعُ له غيرَ أن يعلمَ اللهُ من قلبه أنَّه له كاره. انتهى.
فتبين أن التغيير باليد واللسان يكون على قدر المستطاع، وأما إنكار القلب فيجب على كل أحد، ولا يسقط وجوبه بحال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: مَنْ رَأَى مِنكُم مُنْكَراً فَليُغيِّرهُ بيدِهِ، فإنْ لَمْ يَستَطِعْ فبِلسَانِهِ، فإنْ لَمْ يَستَطِعْ فَبِقلْبِهِ، وذلك أَضْعَفُ الإيمانِ . رواهُ مُسلمٌ.

ومن الأمور التي ينبغي على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مراعاتها: العلم والرفق والحلم. قال شيخ الإسلام: وينبغي لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون فقيها قبل الأمر، رفيقا عند الأمر؛ ليسلك أقرب الطرق في تحصيله، حليما بعد الأمر؛ لأن الغالب أن لا بد أن يصيبه أذى؛ كما قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}. انتهى.
وقال رحمه الله: فلا بد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما، ولا بد من العلم بحال المأمور وحال المنهي. انتهى.
ومن الأمور التي ينبغي مراعاتها تقدير المصالح والمفاسد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وليس لأحد أن يزيل المنكر بما هو أنكر منه، مثل أن يقوم واحد من الناس يريد أن يقطع يد السارق ويجلد الشارب، ويقيم الحدود؛ لأنه لو فعل ذلك لأفضى إلى الهرج والفساد، لأن كل واحد يضرب غيره ويدعي أنه استحق ذلك، فهذا ينبغي أن يقتصر فيه على ولي الأمر. انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله. ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عَزَمَ على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنَعه من ذلك - مع قدرته عليه - خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر. انتهى.
وأما حديث أبي ثعلبة الخشني الذي ذكرته وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوام. فقد ذكره ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم، وذكر معه أحاديث وآثارا أخرى في معناه، ثم قال: وهذا كلُّه قد يُحمل على أنَّ من عجز عن الأمر بالمعروف، أو خاف الضَّرر، سقط عنه، وكلامُ ابن عمر يدلُّ على أنَّ من عَلِمَ أنَّه لا يُقبل منه، لم يجب عليه، كما حُكي روايةً عن أحمد، وكذا قال الأوزاعيُّ: مُرْ من ترى أنْ يقبلَ منك. انتهى.

وللفائدة فهاتان الفتويان فيهما ذكر بعض ضوابط إنكار المنكر: 131498، 124424.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني