الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

موقف المسلم إذا علم بردة غيره وهل يرفع أمره للحاكم

السؤال

إذا ارتد رجل مثلًا, فهل يجب على أبي هذا المرتد أو أخيه أن يذهبا إلى الحاكم لكي يشهدوا على هذا المرتد بالردة؟ وهل يأثم والد المرتد على عدم ذهابه إلى الحاكم للشهادة على ابنه بالردة أم لا؟ وكذلك هل يأثم أخو المرتد أم لا؟ وهل يجب على كل من علم بردة شخص – سواء كان من أقاربه أم ليس من أقاربه - أن يذهب إلى الحاكم ليشهد عليه بالردة أم لا؟ وأخيرًا: ما معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "تعافوا الحدود فيما بينكم"؟ شكرًا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالواجب على من علم بردة مسلم أن ينصح له, وأن يعظه، ويبين له خطأه، ويفند له شبهته بقدر المستطاع؛ حتى يعود إلى الإسلام, وينجو من الخلود في النار, فإن يئس منه، ورآه مصرًّا على ردته، فعليه رفع أمره إلى الحاكم؛ أداءً لحق الله تعالى، وتطهيرًا للمجتمع، ثم لعله أن يرجع حين يستتيبه الحاكم, قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول: الحق الواجب على الإنسان قد يكون حقًّا محضًا لله، وهو ما إذا كفر أو عصى على وجه لا يؤذي أحدًا من الخلق، فهذا إذا وجب فيه حد لم يجز العفو عنه بحال. اهـ.

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: من صدر منه ناقض من نواقض الإيمان والإسلام, وأقيمت عليه الحجة, فأصر على عمله وكابر، فإنه يطلق عليه الكفر، ويجب رفع أمره إلى المحكمة الشرعية لتنظر فيه. اهـ. وفيها أيضًا: سب الله سبحانه كفر أكبر وردة عن الإسلام إذا كان الساب ينتسب إلى الإسلام، وهكذا سب الرسول صلى الله عليه وسلم بإجماع أهل العلم، وهكذا ترك الصلاة كفر أكبر, وإن لم يجحد وجوبها في أصح قولي العلماء، والواجب رفع أمره إلى المحكمة الشرعية, وأما الزوجة فعليها أن تمتنع من تمكينه من نفسها إذا كانت تعلم ما ذكرتم حتى ينتهي أمره من المحكمة. اهـ.

ويتأكد ذلك إن جاهر المرتد بردته, ودعا غيره إليها؛ لعظم مفسدته، وشدة خطره، ولهذا فرَّق أهل العلم في بعض الأحكام بين الردة وغيرها من الحدود الثابتة لحق الله تعالى، ومن أمثلة ذلك ما نصوا عليه من منع القاضي من الحكم بعلمه في حدود الله تعالى؛ لأن مبناها على الستر, والدرء بالشبهات، لكنهم استثنوا حكم القاضي بعلمه حال معرفته بإسلام إنسان وردته، قال الخطيب الشربيني في مغني المحتاج: استثني من محل الخلاف بالقضاء بالعلم، صور ـ فذكر بعضها ثم قال: ـ (إلا في حدود الله تعالى) كالزنا, والسرقة, والمحاربة, والشرب، فلا يقضي بعلمه فيها؛ لأنها تدرأ بالشبهات, ويندب سترها ... ويستثنى من ذلك ما إذا علم القاضي من مكلف أنه أسلم, ثم أظهر الردة، فقد أفتى البلقيني بأن القاضي يقضي عليه بالإسلام بعلمه, ويرتب عليه أحكامه. اهـ.

وفرَّق كذلك أهل العلم بين أنواع المجرمين من حيث الستر عليهم أو الشهادة لإقامة الحد والتعزير، قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: الشهود على هذه الجرائم إن تعلق بها حقوق للعباد لزمهم أن يشهدوا بها ... وإن كانت زواجرها حقًا محضًا لله، فإن كانت المصلحة في إقامة الشهادة بها فيشهدوا بها، مثل أن يطلعوا من إنسان على تكرر الزنا, والسرقة, والإدمان على شرب الخمور, وإتيان الذكور، فالأولى أن يشهدوا عليه دفعًا لهذه المفاسد، وإن كانت المصلحة في الستر عليه مثل زلة من هذه الزلات تقع ندرة من ذوي الهيئات, ثم يقلع عنها, ويتوب منها، فالأولى أن لا يشهدوا. اهـ. وراجعي الفتويين: 94319، 126833.

وقال الدكتور عبد الكريم زيدان في أصول الدعوة: عقوبة الردة على أصلين: الأول: إخلال المسلم بالتزامه بأحكام الإسلام. الثاني: درء المفسدة عن المجتمع. وبيان ذلك أنَّ الفرد بإسلامه التزم بأحكام الإسلام وأصوله، وعدم الخروج عليها أو هدمها، فإن فعل ذلك مخلًّا بالتزامه، فيناله جزاء هذا الإخلال، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: فإنَّ في الردة وإعلانها مفسدة للجماعة, وإضرارًا بها مع التعمُّد وسبق الإصرار؛ لأنَّ المرتدَّ ما كنَّا نعرفه لولا إعلان ردته المتعمدة، قاصدًا من وراء ذلك تشكيك الناس في عقائدهم، وإحداث الاضطراب فيما بينهم، وزعزعة كيان الدولة التي اتخذت الإسلام أساسًا لها في قيامها وبقائها وأهدافها, فكان لا بُدَّ من عقوبة زاجرة لمنع هذا الفساد عن الناس وعن الدولة ذاتها. اهـ.

وأما حديث: تعافوا الحدود فيما بينكم. فهذا في الحدود المتعلقة بحقوق الخلق الشخصية، أو في الحدود التي يستحب فيها الستر، قال القاري في المرقاة: أي: ليعف بعضكم عن بعض. اهـ.

وقال المناوي في فيض القدير: يعني أن الحدود الذي بينكم ينبغي أن يعفوها بعضكم لبعض قبل أن تبلغني، فإن بلغتني وجب عليّ أن أقيمها؛ لأن الحد بعد بلوغ الإمام والثبوت لا يسقط بعفو الآدمي, كالمسروق منه. اهـ.

وقال الحافظ ابن عبد البر في الاستذكار: يدلك أن الستر واجب من المؤمن على المؤمن, قوله صلى الله عليه وسلم: "تعافوا الحدود فيما بينكم, فإنه إذا بلغني ذلك فلا عفو", وقوله صلى الله عليه وسلم لهزال الأسلمي: "يا هزال, لو سترته بردائك لكان خيرًا لك". اهـ. وراجعي الفتويين: 124563، 98313.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني