الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بيان سبب الشبه للأبوين أو أحدهما, وسبب الإذكار والإيناث

السؤال

أرجو منكم أن تفيدوني في مسألة أشكلت عليّ, وسأقدم ما بين يدي من أفكار حولها, فأفتوني في صحة هذه الأفكار من عدمها, أو أعطوني جوابًا, وسؤالي عن تحديد جنس المولود الوارد في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال ابن تيمية: إن حديث ثوبان وحده هو الذي تطرق لمسألة التذكير والتأنيث, مع أن هناك حديثًا آخر في مسند الإمام أحمد عن ابن عباس, وقد أوردتموه في موقعكم في فتاوى أخرى.
ثانيًا: لم أرجع الإمام ابن تيمية الشبه للسبق, والجنس للعلو (عندما قال عن الحديث: إنه فيه نظرًا, ولكن إن كان قاله عليه الصلاة والسلام فهو الحق, فالسبق يحدد الشبه, والعلو يحدد الجنس, وبينهما فرق), مع أن العلو واضح في حديث عائشة بتحديد الشبه؟
ثالثًا: لاحظت في الأحاديث الواردة في تحديد الجنس أنها تختلف عن الواردة في تحديد الشبه في لفظ: "إذا اجتمعا" وحديث ابن عباس: "يلتقي الماءان" فهل يفهم من ذلك أن علو أحد الماءين حال اجتماعهما فقط يحدد الجنس, وإذا لم يجتمعا فالعلو يحدد الشبه؟ وفي حالة عدم اجتماعهما يكون أحدهما قد سبق؛ لذلك لم يجتمعا, وقد علا عن الآخر؟ فهل هذا صحيح؟ وشكرًا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فهذا الذي نسبه السائل لشيخ الإسلام ابن تيمية لم نقف عليه في كتبه، ولكن نسب إليه مضمونه تلميذه ابن القيم، فقال في الطرق الحكمية بعد أن ذكر حديث ثوبان: سمعت شيخنا - رحمه الله - يقول: في صحة هذا اللفظ نظر, قلت: لأن المعروف المحفوظ في ذلك إنما هو تأثير سبق الماء في الشبه، وهو الذي ذكره البخاري من حديث أنس: أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فأتاه، فسأله عن أشياء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد", فهذا السؤال الذي سأل عنه عبد الله بن سلام، والجواب الذي أجابه به النبي صلى الله عليه وسلم هو نظير السؤال الذي سأل عنه الحبر، والجواب واحد، ولا سيما إن كانت القصة واحدة، والحبر هو عبد الله بن سلام، فإنه سأله وهو على دين اليهود، فأنسي اسمه، وثوبان قال: "جاء حبر من اليهود", وإن كانتا قصتين والسؤال واحد فلا بد أن يكون الجواب كذلك, وهذا يدل على أنهم إنما سألوا عن الشبه؛ ولهذا وقع الجواب به وقامت به الحجة، وزالت به الشبهة, وأما الإذكار والإيناث فليس بسبب طبيعي، وإنما سببه الفاعل المختار الذي يأمر الملك به. اهـ.
وذكر نحو ذلك في إعلام الموقعين, وقد سبق نقله في الفتوى رقم: 196651.
وتناول ابن القيم هذه المسألة في كتب أخرى من كتبه، منها مفتاح دار السعادة, ومما قال فيه: في النفس من حديث ثوبان ما فيها، وأنه يخاف أن لا يكون أحد رواته حفظه كما ينبغي، وأن يكون السؤال إنما وقع فيه عن الشبه لا عن الإذكار والإيناث، كما سأل عنه عبد الله بن سلام؛ ولذلك لم يخرجه البخاري ... وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاله فهو عين الحق، وعلى كل تقدير فهو يبطل ما زعمه بعض الطبائعيين من معرفة أسباب الإذكار والإيناث. اهـ.
وقال في التبيان في أقسام القرآن: فإن قيل: فما سبب الإذكار والإيناث؟ قيل: الذي نختاره أن سببه مشيئة الرب الفاعل باختياره, وليس بسبب طبيعي ... فإن قيل: فما تصنعون بحديث ثوبان الذي رواه مسلم في صحيحه ـ فذكره ثم قال: ـ الحديث تفرد به مسلم في صحيحه، وقد تكلم فيه بعضهم، وقال: الظاهر أن الحديث وهم فيه بعض الرواة, وإنما كان السؤال عن الشبه، وهو الذي سأل عنه عبد الله بن سلام في الحديث المتفق على صحته, فأجابه بسبق الماء، فإن الشبه يكون للسابق، فلعل بعض الرواة انقلب عليه شبه الولد بالمرأة بكونه أنثى, وشبه بالوالد بكونه ذكرًا، لا سيما والشبه التام إنما هو بذلك, وقالت طائفة: الحديث صحيح لا مطعن في سنده، ولا منافاة بينه وبين حديث عبد الله بن سلام، وليست الواقعة واحدة بل هما قضيتان، ورواية كل منهما غير رواية الأخرى ـ فكر الحديث بسياقهما ثم قال: ـ فتضمن الحديثان أمرين ترتب عليهما الأثران معًا, وأيهما انفرد ترتب عليه أثره، فإذا سبق ماء الرجل وعلا أذكر وكان الشبه له، وإن سبق ماء المرأة وعلا آنث وكان الشبه لها، وإن سبق ماء المرأة وعلا ماء الرجل أذكر وكان الشبه لها، ومع هذا كله فهذا جزء سبب ليس بموجب، والسبب الموجب: مشيئة الله، فقد يسبب بضد السبب, وقد يرتب عليه ضد مقتضاه, ولا يكون في ذلك مخالفة لحكمته، كما لا يكون تعجيزًا لقدرته، وقد أشار في الحديث إلى هذا بقوله: "أذكر وآنث بإذن الله". اهـ.
وعقد ابن القيم في تحفة المودود بأحكام المولود فصلا عن سبب الشبه للأبوين أو أحدهما, وسبب الإذكار والإيناث, وهل لهما علامة وقت الحمل أم لا؟ وأورد فيه عدة أحاديث عن: أنس، وعائشة، وثوبان، وابن مسعود، ثم قال: فتضمنت هذه الأحاديث أمورًا:

ـ أحدها: أن الجنين يخلق من ماء الرجل وماء المرأة، خلافًا لمن يزعم من الطبائعيين أنه إنما يخلق من ماء الرجل وحده ...

ـ الأمر الثاني: أن سبق أحد الماءين سبب لشبه السابق ماؤه, وعلو أحدهما سبب لمجانسة الولد للعالي ماؤه, فها هنا أمران: سبق وعلو، وقد يتفقان, وقد يفترقان، فإن سبق ماء الرجل ماء المرأة وعلاه كان الولد ذكرًا والشبه للرجل، وإن سبق ماء المرأة وعلا ماء الرجل كانت أنثى والشبه للأم، وإن سبق أحدهما وعلا الآخر كان الشبه للسابق ماؤه, والإذكار والإيناث لمن علا ماؤه ... ولا ينكر أن يكون للإذكار والإيناث أسباب كما للشبه أسباب، لكن السبب غير موجب لمسببه، بل إذا شاء الله جعل فيه اقتضاءه، وإذا شاء سلبه اقتضاءه، وإذا شاء رتب عليه ضد ما هو سبب له، وهو سبحانه يفعل هذا تارة، وهذا تارة، وهذا تارة، فالموجب مشيئة الله وحده، فالسبب متصرف فيه لا متصرف، محكوم عليه لا حاكم، مدبَّر ولا مدبِّر، فلا تضاد بين قيام سبب الإذكار والإيناث وسؤال الملك ربه تعالى أي الأمرين يحدثه في الجنين ... وأما تفرد مسلم بحديث ثوبان فهو كذلك، والحديث صحيح لا مطعن فيه، ولكن في القلب من ذكر الإيناث والإذكار فيه شيء: هل حفظت هذه اللفظة أو هي غير محفوظة؟ والمذكور إنما هو الشبه كما ذكر في سائر الأحاديث المتفق على صحتها، فهذا موضع نظر كما ترى, والله أعلم. اهـ.
وأما ورود الإذكار والإيناث من طرق أخرى عن غير ثوبان، فقد وردت كما ذكر السائل من حديث ابن عباس، ولفظ الشاهد منه: ماء الرجل أبيض غليظ, وأن ماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا كان له الولد والشبه - بإذن الله - إن علا ماء الرجل على ماء المرأة كان ذكرًا - بإذن الله - وإن علا ماء المرأة على ماء الرجل كان أنثى - بإذن الله -. وورد من وجه آخر عن ابن عباس بلفظ: يلتقي الماءان، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل آنثت. رواه أحمد, والطيالسي, والنسائي في الكبرى, والطبراني, والضياء, وابن منده في التوحيد, وقال: هذا إسناد متصل, ورواته مشاهير ثقات. اهـ. وقال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة: هذا إسناد حسن. اهـ.
وأما جواب الفقرة الثانية من السؤال فنقول: إن ابن القيم وغيره من أهل العلم قد اجتهدوا في الجمع بين الروايات، فأداهم اجتهادهم إلى إرجاع الشبه لمن سبق ماؤه من الزوجين, وإرجاع الإذكار والإيناث لمن علا ماؤه منهما.
ومن أهل العلم من عكسه، فجعل السبق لجنس المولود والعلو للشبه، كما فعل ابن حجر في حديث ثوبان فقال في فتح الباري: أما حديث ثوبان فيبقى العلو فيه على ظاهره، فيكون السبق علامة التذكير والتأنيث، والعلو علامة الشبه. اهـ.
وأما قول السائل: (العلو واضح في حديث عائشة بتحديد الشبه) فهو كذلك، وله شاهد من حديث ابن مسعود بلفظ: فأيهما علا غلب الشبه. رواه البزار. ولكن ثبت في حديث عبد الله بن سلام وحديث أنس تعليق الشبه بالسبق، وراجع الفتوى رقم: 77653. وجاءت الرواية على الشك في حديث أم سليم، ولفظه: إن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه. رواه مسلم. ورواه النسائي مجزومًا بلفظ: فأيهما سبق كان الشبه.
وفي رواية لحديث عبد الله بن سلام عند الطبراني في المعجم الكبير بلفظ: فأيهما غلب صاحبتها كان الشبه له.
وفي رواية لحديث ابن عباس عن البزار في مسنده بلفظ: فأيهما غلب صاحبتها فالشبه له، وإن اجتمعا كان منها ومنه.
فأنت ترى اختلاف الروايات في تعليقها شبه المولود وجنسه بسبق ماء أحد والديه أو علوه, والله أعلم بحقيقة ذلك، وقد ظهر من دلائل العلوم الطبية الحديثة ما يمكن أن يستأنس به في استيضاح بعض ما يستفاد من هذه الأحاديث، ولكن لا يمكن القطع بدلالته، وقد يظهر في المستقبل ما يزيد الأمر وضوحًا, ويرجح أحد المعاني المحتملة للحديث، وقد سبق لنا ذكر شيء من ذلك في الفتوى رقم: 134441.

وقد قال الدكتور عبد الرحمن عبد الخالق في رده على أسئلة توني بولدروجوفاك وتشكيكاته حول القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم: وستظل كيفية هذه الغلبة غير معلومة للبشر، رحمة من الله بعباده؛ لأنهم لو عرفوا سر ذلك لفسدت حياتهم؛ إذ من هو على استعداد لينجب الأنثى إذا كان في مقدور كل أحد أن يتحكم في نوع المولود الذي يريد؟ فنحمد الله أن جعل ذلك مما استأثره بعلمه، وإلا لفسدت حياة البشر على الأرض. اهـ.
وهناك مقال مفيد في هذا الباب للدكتور عبد الرشيد قاسم بعنوان: (دراسة تحديد جنس الجنين .. دراسة شرعية طبية).

وأما المعنى الذي ذكره السائل في الفقرة الثالثة من أن: علو أحد الماءين يحدد الجنس حال اجتماعهما فقط، فإذا لم يجتمعا حصل السبق ويكون الشبه !! فلا يتماشى مع أيٍّ من أقوال أهل العلم الذين شرحوا أحاديث الباب مما اطلعنا عليه، ومع ذلك فلا يمكننا القطع بخطئه, والله أعلم بحقيقة ذلك.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني