الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مراعاة الخلاف بين العلماء.. مستحب أم واجب.. وضوابطه

السؤال

هل الخروج من الخلاف القوي في المسائل الفقهية واجب أو مستحب؟ وهل من العلماء من قال بوجوب الخروج من الخلاف، فمثلاً في مسألة النقاب هناك خلاف فيها، فهل يجب على المرأة أن تخرج من هذا الخلاف وترتدي النقاب؟ أم يستحب لها أن تخرج من هذا الخلاف القوي؟ وأين أجد تفصيل هذه المسألة؟ وهل في علم الفقه أو في أصوله أم في القواعد؟ دلوني على المكان الذي أجد فيه تفصيل هذه المسألة، فأنا طالب علم، ادعو لي أن يعينني الله عز وجل على طلب العلم وييسر لي سبله.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالخروج من الخلاف مستحب لا واجب، وليس ذلك على إطلاقه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح عمدة الفقه: أما الخروج من اختلاف العلماء فإنما يفعل احتياطا إذا لم تعرف السنة ولم يتبين الحق، لأن من اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه، فإذا زالت الشبهة وتبينت السنة، فلا معنى لمطلب الخروج من الخلاف، ولهذا كان الإيتار بثلاث مفصولة أولى من الموصولة، مع الخلاف في جوازهما من غير عكس، والعقيقة مستحبة أو واجبة مع الخلاف في كراهتها، وإشعار الهدي سنة مع الخلاف في كراهته، والإجماع على جواز تركه، وفسخ الحج إلى العمرة لمن يريد التمتع أولى من البقاء عليه اتباعا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الخلاف الشائع في جواز ذلك... وأمثال ذلك كثيرة. اهـ.

وقال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: أطلق بعض أكابر أصحاب الشافعي ـ رحمه الله ـ أن الخروج من الخلاف حيث وقع أفضل من التورط فيه، وليس كما أطلق، بل الخلاف على أقسام:

ـ القسم الأول: أن يكون الخلاف في التحريم والجواز، فالخروج من الاختلاف بالاجتناب أفضل.

ـ القسم الثاني: أن يكون الخلاف في الاستحباب أو الإيجاب، فالفعل أفضل.

ـ القسم الثالث: أن يكون الخلاف في الشرعية، كقراءة البسملة في الفاتحة، فإنها مكروهة عند مالك، واجبة عند الشافعي ... فالفعل أفضل..

والضابط في هذا أن مأخذ المخالف إن كان في غاية الضعف والبعد من الصواب فلا نظر إليه.. ولا سيما إذا كان مأخذه مما ينقض الحكم بمثله، وإن تقاربت الأدلة في سائر الخلاف بحيث لا يبعد قول المخالف كل البعد فهذا مما يستحب الخروج من الخلاف فيه، حذرا من كون الصواب مع الخصم، والشرع يحتاط لفعل الواجبات والمندوبات، كما يحتاط لترك المحرمات والمكروهات. اهـ.

وذكر الشيخ زكريا بن غلام قادر الباكستاني في رسالته من أصول الفقه على منهج أهل الحديث قاعدة: الخروج من الخلاف مستحب، وقال: الأدلة متكاثرة في الاعتصام وعدم التفرق والاتفاق على كلمة واحدة، فهي دالة على استحباب الخروج من الخلاف، لكن ذلك مشروط بشرطين:

الشرط الأول: أن لا يكون في ذلك طرح لدليل من الأدلة.

الشرط الثاني: أن لا يوقع الخروج من ذلك الخلاف في الوقوع في خلاف آخر.

قال النووي في شرح مسلم: فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف، إذا لم يلزم منه إخلال بسنة، أو أوقع في خلاف آخر. اهـ.
وذكر الدكتور محمد الزحيلي في القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة في قواعد المالكية قاعدة: مراعاة الخلاف، وقال: إن مراعاة الخلاف يعني العمل بدليل المخالف في المسألة من المذاهب الفقهية المعتبرة، بما لا يبطل دليل المستدل بالكلية، وذلك لرجحان الدليل المراعى وقوته، وهذا يقرب بين المذاهب، ويمنع التعصب المذهبي، وقد يكون دليل المخالف أقوى فيعمل بالأرجح، وهو ما قرره الشافعية في قواعدهم بقولهم: الخروج من الخلاف مستحب، ولها تطبيقات كثيرة عندهم. اهـ.
وذكر هذه القاعدة بعد ذلك في قواعد الشافعية وقال: ولمراعاة الخلاف شروط، فإن لم تتوفر فلا يراعى الخلاف، وهذه الشروط هي: ـ أحدها: ألا توقع مراعاته في خلاف آخر.

ـ الثاني: ألا يخالف سُنَّة ثابتة صحيحة أو حسنة.

ـ الثالث: أن يقوى مَدرَكُه أي دليله الذي استند إليه المجتهد. اهـ.

وجاء في الموسوعة الفقهية: ذهب جمهور الفقهاء إلى استحباب مراعاة الخلاف في الجملة باجتناب ما اختلف في تحريمه، وفعل ما اختلف في وجوبه. اهـ.

ومما سبق يعرف السائل أن هذه المسألة تأتي في كتب القواعد الفقهية، وكذلك في كتب أصول الفقه، وتجدها غالبا عند البحث في موضوع: هل الحق في الأحكام الشرعية واحد أو متعدد؟ ومن أمثلة ذلك كتاب البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي، وكتاب الموافقات للشاطبي، وممن فصَّل فيها أيضا القرافي في كتابه الفروق في الفرق السادس والخمسين والمائتين بين قاعدة الزهد وقاعدة الورع، فقال: الورع من أفعال الجوارح، وهو ترك ما لا بأس به حذرا مما به البأس، وأصله قوله عليه السلام: الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه سلم ـ وهو مندوب إليه، ومنه الخروج عن خلاف العلماء بحسب الإمكان... اهـ.

ثم فصَّل في ذلك.
وراجع للفائدة الفتويين رقم: 128029، ورقم: 77584.

ونسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياك الفقه في الدين، وأن يسلك بنا سبيل العلماء العاملين.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني