الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ما موقف الزوجة إذا طلقها زوجها ثلاثا ثم أنكر ذلك

السؤال

نحن الآن في زمن انتشر فيه غياب الذمة والأمانة, فوالدي تلفظ بألفاظ الطلاق الصريحة لوالدتي أكثر من ثلاث مرات - هذا على حد قولها – ولا يوجد شهود على هذا التلفظ, وهو يرفض تمامًا أن تخرج من المنزل, وطلبها في بيت الطاعة, ورفض أن يطلقها أمام المأذون مما جعلها في حرج شديد أمام الله؛ لأنه إذا طالبها بحقه فإنها تشعر أنه زنا, فلماذا لا يقع الطلاق إلا أمام مأذون وشاهدي عدل؟ فوالدتي إن رفعت قضية فلن تأخذ أي حق؛ نظرًا لأنه ينكر ذلك, ويقول لها: إنه إذا طلقها أمام المأذون فلن تأخذ المعاش في حالة وفاته, وهو ينكر ذلك أمامنا تمامًا, فهل يمكن أن نأخذ برأي الدكتور سعد الدين الهلالي أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر أن الطلاق لا يقع إلا أمام مأذون؟ وكذلك قد نادى بهذا الموضوع شيخ الأزهر السابق جاد الحق علي جاد, حيث تقدم بمشروع قانون أن الطلاق لا يقع إلا أمام مأذون, ولو توفي والدي فهل لها أن تأخذ المعاش؛ فهو لا يريد طلاقها أمام مأذون, والدين الإسلامي دين عظيم, ودين راقٍ يهدف إلى تحقيق مصالح العباد, فلماذا لا يجتهد علماء المسلمين في جعل الطلاق أمام مأذون - كصفة الزواج أمام مأذون- حتى نريح الناس والشيوخ من كثرة الفتاوى؟ فالمرأة لا تستطيع أن تأخذ عدتها إلا بهذه الورقة الرسمية من المأذون, والقرآن يقول: "فطلقهن لعدتهن" فنحن – ربما - نخالف أمر الله؛ لأن الزوج إذا أنكر التلفظ بالطلاق أو تلفظ بالطلاق فالزوجة لا تستطيع أن تحصل على العدة إلا بالورقة الرسمية, فنجد أن كثيرًا من الأزواج يتلفظون بذلك, وبعد عامين أو أكثر يذهبون إلى المأذون؛ مما يجعل النساء في حرج شديد جدًّا, حيث يضيع من عمرها سنوات دون فائدة, ومن الممكن أن تتزوج فيها, وهي تعيش مع زوجها, وهي تعلم أن وجودها غير شرعي لتلفظه بصحيح الطلاق.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فاعلم أن من طلقها زوجها ثلاثًا وأنكر ذلك فقد بانت من زوجها في باطن الأمر، ولا يحل لها أن تمكنه من نفسها، ويجب عليها أن تفارقه ما استطاعت، قال ابن قدامة في المغني: فإذا طلق ثلاثًا, وسمعت ذلك وأنكر, أو ثبت ذلك عندها بقول عدلين, لم يحل لها تمكينه من نفسها, وعليها أن تفر منه ما استطاعت, وتمتنع منه إذا أرادها, وتفتدي منه إن قدرت, قال أحمد: لا يسعها أن تقيم معه, وقال أيضًا: تفتدي منه بما تقدر عليه، فإن أجبرت على ذلك فلا تزين له, ولا تقربه, وتهرب إن قدرت, وإن شهد عندها عدلان غير متهمين فلا تقيم معه, وهذا قول أكثر أهل العلم، قال جابر بن زيد, وحماد بن أبي سليمان, وابن سيرين: تفر منه ما استطاعت, وتفتدي منه بكل ما يمكن, وقال الثوري, وأبو حنيفة, وأبو يوسف, وأبو عبيد: تفر منه, وقال مالك: لا تتزين له, ولا تبدي له شيئًا من شعرها, ولا عريتها, ولا يصيبها إلا وهي مكرهة، وروي عن الحسن, والزهري, والنخعي: يستحلف, ثم يكون الإثم عليه, والصحيح ما قاله الأولون؛ لأن هذه تعلم أنها أجنبية منه, محرمة عليه, فوجب عليها الامتناع, والفرار منه كسائر الأجنبيات .اهـ.

فيجب على والدتك أن تستفتي في شأن الطلاق الذي صدر من زوجها، فإن تبين وقوع ثلاث تطليقات، وأنكر ذلك، فعليها أن تخالعه, أو تفارقه بأي وسيلة ممكنة.

وأما راتب المعاش فلا يحل لأمك أن تأخذه إن طلقت ثلاثًا؛ لأن المطلقة ثلاثًا لا ترث زوجها وإن أنكر طلاقها، قال ابن قدامة في المغني: ولو طلقها ثلاثًا ثم جحد طلاقها لم ترثه نص عليه أحمد, وبه قال قتادة, وأبو حنيفة, وأبو يوسف, والشافعي, وابن المنذر, وقال الحسن: ترثه؛ لأنها في حكم الزوجات ظاهرًا, ولنا أنها تعلم أنها أجنبية, فلم ترثه كسائر الأجنبيات .اهـ.

وأما المطالبة بألا يقع الطلاق إلا عند مأذون أو بشاهدين فهو كلام لا ينبغي الالتفات إليه, ولا التعويل عليه؛ لأنه استدراك على الشرع، ومصادمة صريحة لنصوصه وأحكامه، فإن الطلاق يقع دون حاجة إلى مأذون أو غيره باتفاق العلماء، ثم إن النكاح كذلك ينعقد بالإيجاب والقبول دون حاجة إلى مأذون, أو غيره باتفاق العلماء السابقين, وأما اجتهادات بعض المعاصرين في هذا الباب فهي مردودة لمخالفتها للنصوص, ولإجماع من سلف من علماء الأمة.

قال الإمام الشافعي: أني لم ألق مخالفًا حفظت عنه من أهل العلم أنّ حرامًا أن يطلق بغير بينة. اهـ.

وقال ابن تيمية: وقد ظن بعض الناس أن الإشهاد هو الطلاق، وظن أن الطلاق الذي لا يشهد عليه لا يقع، وهذا خلاف الإجماع، وخلاف الكتاب والسنة، ولم يقل أحد من العلماء المشهورين به؛ فإن الطلاق أذن فيه أولًا، ولم يأمر فيه بالإشهاد، وإنما أمر بالإشهاد حين قال: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} [الطلاق: 2].

والقول بأن الطلاق لا يقع إلا بإشهاد قول أهل البدع، قال ابن تيمية - في نقد مراتب الإجماع لابن حزم -: وكذلك اختار أن الطلاقَ بالكناية لا يقع، ولا يقع إلا بلفظ الطلاق، وهذا قول الرافضة، وكذلك قولهم عن الطلاق لا يقع إلا بالإشهاد. اهـ.

وراجع للفائدة الفتوى رقم: 162585.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني