الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

محل كون الأوامر في الآداب للاستحباب لا للوجوب

السؤال

بالنسبة للحية، وقص الشارب.هل كون الرواية في مسلم قالت "أمر بتوفير" هل يقطع كل جدال؟ البعض يرى أن الصارف عن الوجوب كونهما من الآداب حتى ولو لم يأت صارف غير كونهما من الآداب. وهل الروايات الخمس لحديث اللحية حيث إن كلا منها بلفظ مختلف يفيد أن النبي أمر؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد أشبعنا الكلام عن اللحية ووجوب إعفائها، وأقوال العلماء في ذلك في فتاوى كثيرة جدا، منها الفتوى رقم: 71215

وأما الألفاظ التي وردت في شأن إعفاء اللحية فهي: أرخوا، ووفروا، واعفوا، وأرجوا، وأوفوا، وكلها بمعنى واحد، وهو تركها على حالها.

قال النووي في شرح مسلم: فتحصل خمس روايات: أعفوا، وأوفوا، وأرخوا، وأرجوا، ووفروا، ومعناها كلها تركها على حالها، هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه. اهـ.

وتعدد ألفاظ الأمر قرينة تقوي القول بأن الأمر في هذه الأحاديث للوجوب وليس للندب، ومن القرائن كذلك ما نقله بعض أهل العلم من إجماع العلماء على وجوب إعفاء اللحية.

قال ابن حزم: واتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز . اهـ. من مراتب الإجماع.

وأما كون الأوامر في أبواب الآداب للاستحباب، فهو محل خلاف بين العلماء.

قال ابن عبد البر في التمهيد: وأما ما جاء من النهي على جهة الأدب وحسن المعاملة، والإرشاد إلى المرء: نهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يمشي المرء في نعل واحدة، وأن يقرن بين تمرتين في الأكل، وأن يأكل من رأس الصحفة، وأن يشرب من في السقاء، وغير ذلك مثله كثير قد علم بمخرجه المراد منه. وقد قال جماعة من أهل العلم: إن كل نهي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من الأشياء، ففعله الإنسان منتهكا لحرمته، وهو عالم بالنهي غير مضطر إليه، أنه عاص آثم. واستدلوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه، وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم. فأطلق النهي ولم يقيده بصفة، وكذلك الأمر لم يقيده إلا بعدم الاستطاعة. فقالوا: إن من شرب من في السقاء، أو مشى في نعل واحدة، أو قرن بين تمرتين في الأكل، أو أكل من رأس الصحفة ونحو هذا، وهو عالم بالنهي، كان عاصيا. وقال آخرون: إنما نهى عن الأكل من رأس الصحفة؛ لأن البركة تنزل منها. ونهى عن القران بين تمرتين؛ لما فيه من سوء الأدب أن يأكل المرء مع جليسه وأكيله تمرتين في واحد، ويأخذ جليسه تمرة، فمن فعل فلا حرج. وكذلك النهي عن الشرب من في السقاء، خوف الهوام؛ لأن أفواه الأسقية تقصدها الهوام وربما كان في السقاء ما يؤذيه، فإذا جعل منه في إناء رآه وسلم منه. وقالوا في سائر ما ذكرنا نحو هذا مما يطول ذكره .اهـ.

قال ابن رجب: وأما النهي المجرد، فقد اختلف الناس: هل يستفاد منه التحريم أم لا ؟ وقد روي عن ابن عمر إنكار استفادة التحريم منه. قال ابن المبارك: أخبرنا سلام بن أبي مطيع، عن ابن أبي دخيلة، عن أبيه، قال: كنت عند ابن عمر، فقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الزبيب والتمر، يعني: أن يخلطا، فقال لي رجل من خلفي: ما قال؟ فقلت: حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزبيب والتمر، فقال عبد الله بن عمر: كذبت، فقلت: ألم تقل: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه، فهو حرام؟ فقال: أنت تشهد بذاك؟ قال سلام: كأنه يقول: من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو أدب ... وقال عبد الله بن الإمام أحمد: سمعت أبي يقول: أما ما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمنها أشياء حرام، مثل قوله: ((نهى أن تنكح المرأة على عمتها، أو على خالتها)) ، فهذا حرام، ونهى عن جلود السباع، فهذا حرام، وذكر أشياء من نحو هذا. ومنها أشياء نهى عنها، فهي أدب. اهـ.

وقال ابن عثيمين في شرح الورقات: وفرّق بعضُ العلماء فقالوا: أما ما شأنه التعبد فالأمر به على سبيل الوجوب؛ لأن هذا هو الذي خلقنا له؛ لقوله تعالى: ( وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون ). وما كان سبيله الأخلاق والآداب فهو للاستحباب؛ لأن الأخلاق والآداب ليست على سبيل التعبد، لكن قد يفعلها الإنسانُ امتثالاً لأمر الله، فيكون بذلك عابداً لله تعالى. وهذا القول لا بأس به، وقد يكون أقرب الأقوال؛ لأن كثيراً من الأوامر الشرعية نجد العلماءَ -رحمهم الله- كلهم أو جمهورهم، يقولون: إنها للاستحباب. وهذا أقرب ما نتخلّص به وهو أن نقول: ما كان من شأن العبادة فهو للوجوب، وما كان من شأن الأخلاق فالأمر للاستحباب، وهذا ما لم توجد قرينة تعيّن الوجوب، أو قرينة تعين عدم الوجوب؛ لأن الكلام السابق في الأمر المطلق .اهـ.

وعلى كل حال فعلى التسليم بأن الأوامر في أبواب الآداب للاستحباب، فمحل ذلك حيث لم توجد قرينة تدل على الوجوب، وتعدد ألفاظ الأمر بإعفاء اللحية، وتعليل ذلك بمخالفة المشركين، وما نقله بعض أهل العلم من إجماع العلماء على وجوب إعفاء اللحية، كلها قرائن تدل على أن الأمر بإعفاء اللحية للوجوب وليس للندب.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني