الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أدلة القائلين بجواز مصافحة الأجنبية ومناقشتها

السؤال

حسب ما قرأت في عدة فتاوى لهذا الموقع تبين لي أن مصافحة الرجل للأجنبية حرام, لكني تفاجأت بوجود أدلة على جواز ذلك, فما درجة صحتها؟ وكيف يرد عليها؟ "أدلة من يرى جواز مصافحة النساء:
1- روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول الله فتنطلق به حيث شاءت», هذا غاية في الصحة، وفي رواية أحمد, وابن ماجه: «فما ينزع يده من يدها»، جوّدها الألباني في صحيح ابن ماجه (4177)، وفي سندها علي بن زيد بن جدعان, وفيه ضعف.
2- جاء في الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه, وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - فدخل عليها رسول الله فأطعمته, ثم جلست تفلي رأسه, فنام رسول الله, ثم استيقظ وهو يضحك ...الحديث, وأم حرام ليست من محارمه, وقد بالغ الحافظ الدمياطي في الرد على من ادعى أنها من محارم النبي صلى الله عليه وسلم، وبيّن بطلان ذلك بالأدلة القاطعة, انظر في ذلك فتح الباري 13|230, وأما دعوى خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم فقد ردها القاضي عياض بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، وأن الأصل عدم الخصوصية, وجواز الاقتداء به في أفعاله حتى يقوم على الخصوصية دليل.
3- ثبت أن أبا موسى الأشعري - رضي الله عنه - جعل امرأة من الأشعريين تفلي رأسه وهو مُحْرِم في الحج, وهذا صحيحٌ, أخرجه البخاري, أما في حال الفتنة فإن المصافحة لا تجوز من باب سد الذرائع, وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم بالقبلة للشيخ الكبير, وهو صائم في رمضان, ولم يرخص ذلك لشاب أتاه وسأله نفس السؤال, و الله أعلم بالصواب"

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد ذكرنا في عدة فتاوى سابقة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصافح النساء الأجنبيات، بل ورد عنه عليه الصلاة والسلام الوعيد الشديد على مسهن, فعن معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له. أخرجه الطبراني, والبيهقي, قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وقال المنذري: رجاله ثقات.

ولا شك في أن المصافحة من المس, قال الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني: وفي الحديث: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط ...) وعيد شديد لمن مس امرأة لا تحل له, ففيه دليل على تحريم مصافحة النساء؛ لأن ذلك مما يشمله المس دون شك.

وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمره الله تعالى، وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن البيعة: "قد بايعتكن كلامًا". متفق عليه.
وقال الإمام ابن العربي أيضًا: كان النبي يصافح الرجال في البيعة تأكيدًا لشدة العقدة بالقول والفعل, فسأل النساء ذلك, فقال لهن: قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة, ولم يصافحهن لما أوعز إلينا في الشريعة من تحريم المباشرة لهن, إلا من يحل له ذلك منهن.

وأما حديث أخذ الأمة المملوكة الرقيقة بيده صلى الله عليه وسلم: فليس معناه أنها تباشر ذلك, وإنما معناه أنها تستدعيه لحاجتها, فيذهب معها كيف شاءت؛ حتى يقضي لها حاجتها، قال العيني في شرح صحيح البخاري: والمراد من الأخذ بيده لازمه, وهو الرفق والانقياد, يعني كان خلق رسول الله على هذه المرتبة, هو أنه لو كان لأمة حاجة إلى بعض مواضع المدينة, وتلتمس منه مساعدتها في تلك الحاجة, واحتاجت بأن يمشي معها لقضائها؛ لما تخلف عن ذلك؛ حتى يقضي حاجتها, قوله: فتنطلق به حيث شاءت, وفي رواية أحمد: "فتنطلق به في حاجتها" وله من طريق علي بن يزيد عن أنس أن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء, وتأخذ بيد رسول الله, فما تنزع يده من يدها؛ حتى تذهب به حيث شاءت. وأخرجه ابن ماجه من هذا الوجه، وهذا دليل على مزيد تواضعه, وبراءته من جميع أنواع الكبر. اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: والتعبير بالأخذ باليد: إشارة إلى غاية التصرف؛ حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة, والتمست منه مساعدتها في تلك الحاجة لساعد على ذلك, وهذا دال على مزيد تواضعه, وبراءته من جميع أنواع الكبر صلى الله عليه وسلم .انتهى.

وأما ما أخرج الشيخان عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه, وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت, فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا, فأطعمته, ثم جلست تفلي رأسه, فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم استيقظ, وهو يضحك ... الحديث .

فقد اختلف في علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم بأم حرام كما ذكر السائل, وقد جزم بالمحرمية جمع من المحققين قال النووي - رحمه الله -: اتفق العلماء على أن أم حرام كانت محرمًا له صلى الله عليه وسلم, واختلفوا في كيفية ذلك، فقال ابن عبد البر وغيره: كانت إحدى خالاته من الرضاعة, وقال آخرون: بل كانت خالة لأبيه, أو لجده؛ لأن عبد المطلب كانت أمه من بني النجار. اهـ.

وقد نوقش النووي في هذا الاتفاق بما ذكره السائل, وقد رجح ابن العربي, وابن حجر الخصوصية, وقد جزم الملا على القاري بالمحرمية, فقال في شرح المشكاة: قال النووي: أم حرام, وأم سليم: كانتا خالتين لرسول الله محرمين: إما من الرضاع, وإما من النسب, فيحل له الخلوة بهما, فكان يدخل عليهما خاصة, ولا يدخل على غيرهما من النساء, وقيل: إنما كان يقيل عندها؛ لأنها كانت من محارمه من جهة الرضاع, وإلا لم يدخل النبي قبل نزول الحجاب عليها, وعلى أختها أم حرام, وقد دخل بعده عليهما دون غيرهما من نساء الأنصار, والنبي لم يكن رضيعًا في المدينة, فتعين أن يكون ذلك من قبل أبيه عبد الله, فإنه ولد بالمدينة, وقال التوربشتي: قد وجدت في بعض كتب الحديث أنها كانت من ذوات محارم النبي؛ لأنه لم يكن ليقيل في بيت أجنبية, وإذا لم يكن بينه وبينها سبب محرم من رحم ووصلة, فلا بد أن يكون ذلك من جهة الرضاع, وإذا قد علمنا أن النبي لم يحمل إلى المدينة رضيعًا تعين ذلك أن يكون من قبل أبيه عبد الله, فإنه ولد بالمدينة ... اهـ.

وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي: وذكر ابن العربي عن بعض العلماء أن هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان معصومًا يملك إربه عن زوجته, فكيف عن غيرها؛ مما هو المنزه عنه, وهو المبرأ عن كل فعل قبيح وقولة رفث!؟ ورده عياض بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال, وثبوت العصمة مسلم, لكن الأصل عدم الخصوصية, وجواز الاقتداء به في أفعاله؛ حتى يقوم على الخصوصية دليل، وقيل: يحمل دخوله عليها أنه كان قبل الحجاب، قال الحافظ: ورد بأن ذلك كان بعد الحجاب جزمًا, وقد قدمت في أول الكلام على شرحه أن ذلك كان بعد حجة الوداع.
وقال الدمياطي: ليس في الحديث ما يدل على الخلوة بها, فلعل كان ذاك مع ولد, أو خادم, أو زوج, أو تابع.

قال الحافظ: وهو احتمال قوي, لكنه لا يدفع الإشكال من أصله, لبقاء الملامسة في تفلية الرأس, وكذا النوم في الحجر, ثم قال: وأحسن الأجوبة دعوى الخصوصية, ولا يردها كونها لا تثبت إلا بدليل؛ لأن الدليل على ذلك واضح, والله أعلم. انتهى

وأما أثر أبي موسى ففي الصحيحين, وغيرهما, بلفظ: فطفت بالبيت, وبالصفا والمروة, ثم أتيت امرأة من قومي, فمشطتني, وغسلت رأسي .. وفي رواية لمسلم: .. فطفت بالبيت, وبالصفا والمروة, ثم أتيت امرأة من بني قيس, ففلت رأسي ..

والظاهر: أن هذه المرأة كانت قريبة له, قال العيني في عمدة القاري: قال الكرماني: «فأتيت امرأة» محمول على أن هذه المرأة كانت محرمًا له.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني