الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يجوز للعامي محاولة معرفة الأرجح من خلال أدلة المفتين؟

السؤال

أحسن الله إليكم – شيوخنا - أرجو أن تتسع صدوركم لاستفساري. قرأت العديد من الفتاوى على موقعكم بخصوص كيفية التصرف في حالة اختلاف العلماء، وقد رجحتم أن يختار العامي قول من يثق به من العلماء، ألا ترون أن في هذا بعض التعطيل للعقل؟ فهل يجوز أن يقوم الشخص العامي بمحاولة معرفة الأرجح من خلال أدلة المفتين؟ فمثلًا هناك من يقول بأن تأخير الصلاة عن وقتها عمدًا يخرج من الملة, وقد استنبطت من خلال حديث نبوي أن المقصر في الصلاة يقع تحت مشيئة الله: إن شاء غفر له, وإن شاء عذبه، فاستنتجت أن تأخير الصلاة غير مخرج من الملة، فهل يصح هذا الاستنتاج؟ كما أريد دراسة المحاسبة, وأنا أعيش في أمريكا, وكما تعلمون فإن أغلب الشركات - إن لم يكن كلها - لديها معاملات ربوية, وأتمنى أن أعمل في بلد إسلامي في المستقبل، ولكن هذه الأمور يعلمها الله وحده، وقرأت العديد من الفتاوى عن هذا الخصوص، في بعضها أن تدقيق الحسابات الربوية يدخل ضمن العملية الربوية، وفي بعض آخر إنه إثم, وليست من ضمن العملية الربوية، وفي بعضها إباحة، وارتاح قلبي للقول الأخير, رغم أنني دائمًا أحرص على الرزق الحلال, والابتعاد عن الربا, وأتشدد في ذلك كثيرًا, وأخاف الوقوع في الربا، فإذا اخترت القول الأخير فهل أكون من الذين يتبعون الهوى, أو من تتبع الرخص المذموم؟ وهل تنصحونني بالاستخارة؟ أرجو توضيحًا شاملًا - جزاكم الله خيرًا -.

الإجابــة

الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن فرض العامي عند اختلاف الأقوال أن يتبع قول من يثق به من العلماء, إن لم تكن عنده أهلية للنظر والترجيح.

وأما إن كانت عنده قدرة على الترجيح: فإنه يرجح بما يقدر عليه، قال الخطيب البغدادي: فإن قال قائل: فكيف في المستفتي من العامة إذا أفتاه الرجلان واختلفا؟ فهل له التقليد؟ قيل: إن كان العامي يتسع عقله، ويكمل فهمه إذا عقِّل أن يعقل، وإذا فُهِّم أن يفهم، فعليه أن يسأل المختلفين عن مذاهبهم، وعن حججهم، فيأخذ بأرجحها عنده، فإن كان له عقل يقصر عن هذا، وفهمه لا يكمل له، وسعه التقليد لأفضلهما عنده. اهـ.

وليحذر المسلم من الخوض في غمار الترجيح, وليست عنده قدرة ولا فهم؛ فإن ذلك يؤدي به إلى القول على الله بلا علم, والقول على الله بلا علم من أعظم الموبقات، كما قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ {الأعراف:33}.

وقال الحجاوي في نظم الكبائر:
وقول بلا علم على الله ربنا وسب لأصحاب النبي محمد.

والواجب كذلك على المسلم في كل حال أن يكون متجردًا لله جل وعلا في تلقي الأحكام الشرعية، وأن يقصد إصابة الحق, وموافقة مراد الله جل وعلا في مسائل العلم، وليحترس من أن يكون متبعًا لهواه, ومتلمسًا لما تشتهيه نفسه، فالشيطان يدخل على كثير من الناس من باب الخلاف, فيخادع المرء نفسه بأنه يتبع الراجح في نظره، وما هو إلا متبع لهواه, وما تشتهيه نفسه.

وأما حكم تارك الصلاة تهاونًا بها: فهو محل خلاف قديم بين العلماء، وقد بينا أقوالهم في الفتوى رقم: 130853.

وأما الحديث المذكور في السؤال: فقد أجاب عنه القائلون بكفر تارك الصلاة، فقد حمله ابن تيمية على من لم يحافظ على الصلاة في أوقاتها، لكنه لا يترك الصلاة، فقال: وأجود ما اعتمدوا عليه قوله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة، فمن حافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد: إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة. قالوا: فقد جعل غير المحافظ تحت المشيئة، والكافر لا يكون تحت المشيئة, ولا دلالة في هذا، فإن الوعد بالمحافظة عليها، والمحافظة فعلها في أوقاتها كما أمر، كما قال تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى. وعدم المحافظة يكون مع فعلها بعد الوقت، كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق, فأنزل الله آية الأمر بالمحافظة عليها, وعلى غيرها من الصلوات، وقد قال تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيًّا. فقيل لابن مسعود وغيره: ما إضاعتها؟ فقال: تأخيرها عن وقتها، فقالوا: ما كنا نظن ذلك إلا تركها، فقال: لو تركوها لكانوا كفارًا ـ وكذلك قوله: فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون ـ ذمهم مع أنهم يصلون؛ لأنهم سهوا عن حقوقها الواجبة, من فعلها في الوقت, وإتمام أفعالها المفروضة، كما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلًا ـ فجعل هذه صلاة المنافقين؛ لكونه أخرها عن الوقت, ونقرها، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الأمراء بعده الذين يفعلون ما ينكر، وقالوا: يا رسول الله, أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا. وثبت عنه أنه قال: سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها, فصلوا الصلاة لوقتها, ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة. فنهى عن قتالهم إذا صلوا, وكان في ذلك دلالة على أنهم إذا لم يصلوا قوتلوا, وبين أنهم يؤخرون الصلاة عن وقتها, وذلك ترك المحافظة عليها, لا تركها، وإذا عرف الفرق بين الأمرين, فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها, لا من ترك, ونفس المحافظة يقتضي أنهم صلوا, ولم يحافظوا عليها، ولا يتناول من لم يحافظ, فإنه لو تناول ذلك قتلوا كفارًا مرتدين بلا ريب. اهـ.

وأما العمل في تدقيق حسابات البنوك الربوية: فهو محرم، كما سبق في الفتوى رقم: 837.

ومن أُفتِي بجواز العمل في تدقيق الحسابات الربوية: فأخذ به اتباعًا لهواه, وتلمسًا للرخصة, فإنه آثم بذلك، وإن أصاب الحق في نفس الأمر.

وأما إذا اخذ بهذا القول, وهو يرى أنه أقرب لمراد الله, وأصوب, وأرجح: فإنه معذور إن أخطأ الحق في نفس الأمر، قال ابن تيمية: ثم ذلك المحرم للحلال, والمحلل للحرام: إن كان مجتهدًا, قصده اتباع الرسول, لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر, وقد اتقى الله ما استطاع، فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه، بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه, ولكن من علم أن هذا خطأ فيما جاء به الرسول, ثم اتبعه على خطئه, وعدل عن قول الرسول, فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله, لا سيما إن اتبع في ذلك هواه, ونصره باللسان واليد, مع علمه بأنه مخالف للرسول، فهذا شرك, يستحق صاحبه العقوبة عليه؛ ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه ... وأما إن قلد شخصًا دون نظيره بمجرد هواه, ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق، فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيبًا، لم يكن عمله صالحًا، وإن كان متبوعه مخطئًا، كان آثمًا. اهـ. بتصرف.

وراجع للفائدة الفتوى رقم: 169801.

وأما الاستخارة لاستبانة الحق في مسائل العلم: فقد نقلت عن جمع من السلف، فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف: عن ابن المسيب, أن عمر بن الخطاب كتب في الجد والكلالة كتابًا, فمكث يستخير الله, يقول: اللهم إن علمت فيه خيرًا فأمضه ـ حتى إذا طعن, دعا بالكتاب فمحا فلم يدر أحد ما كان فيه, فقال: إني كتبت في الجد والكلالة كتابًا, وكنت أستخير الله فيه, فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه.

وقد قال الإمام الشافعي في مسائل عدة في كتابه الأم: وهذا مما أستخير الله عز وجل فيه، منها قوله: وقد قيل في الحلي صدقة، وهذا مما أستخير الله عز وجل فيه، قال الربيع: قد استخار الله عز وجل فيه، أخبرنا الشافعي: وليس في الحلي زكاة. اهـ.

وانظر للفائدة الفتوى رقم: 51236.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني