الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

توضيح لكلام شيخ الإسلام حول دليل التمانع

السؤال

أريد ن أسألكم عن شيء في مناقشة شيخ الإسلام ابن تيميه لدليل التمانع، وكلامه حول آية: إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض.
فقد ناقش شيخ الإسلام هذا الدليل من خلال هذه الآية في كتابيه: درء تعارض العقل مع النقل، من صفحة 348 إلى صفحة 365 الجزء 9 من واقع المكتبة الشاملة؛ وفي كتاب منهاج السنة من صفحة 304 إلى صفحة 330 الجزء 3 من واقع المكتبة الشاملة أيضًا.
والذي أشكل علي هو أن شيخ الإسلام تكلم في حالة فرض إله آخر، صانع لهذا العالم مع الله، ولم يتكلم في فرض إله آخر صانع لعالم ثان، بل إنه أورد أنه في حالة وجود ملكين متساويين في القدرة، فإنهما يتنازعان، إلا إذا كان لكل منهما ملك يخصه، كما قال ذلك في درء التعارض حين قال: (وهذا أمر مستقر في فطر بني آدم وعقولهم، وإن تنوعت العبارات عنه، وإن كان قد يحتاج إذا تغيرت فطرة أحدهم باشتباه الألفاظ، والمعاني إلى بسط وإيضاح، فإنهم يعلمون أنه لا يجتمع ملكان متساويان في القدرة والملك، إن لم يكن ملك هذا منفصلاً عن ملك هذا) صفحة 364 الجزء 9 المكتبة الشاملة.
بل قال في نفس الكتاب صفحة 354 الجزء 9 (المكتبة الشاملة) الآتي: (والأشبه أن لو كانا اثنين، أن يكون العالم اثنين، فإذاً العالم واحد، فالفاعل واحد) وكأنه يقول إن تعدد الآلهة ممكن، ولكن بشرط تعدد العالم، وما دام العالم واحدا إذا الإله واحد، سيما وأنه في مناقشته لدليل التمانع في منهاج السنة، بنى كلامه كله على فرض أن للعالم أكثر من صانع، ولم يورد احتمال أن يكون هناك أكثر من عالم، لكل منهم إله. فقال في منهاج السنة الآتي: (وذلك أن دليل التمانع المشهور عند المتكلمين، أنه لو كان للعالم صانعان، لكان أحدهما إذا أراد أمرا، وأراد الآخر خلافه مثل أن يريد أحدهما إطلاع الشمس من مشرقها، ويريد الآخر إطلاعها من مغربها، أو من جهة أخرى، امتنع أن يحصل مرادهما؛ لأن ذلك جمع بين الضدين، فيلزم إما أن لا يحصل مراد واحد منهما، فلا يكون واحد منهما ربا، وإما أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر، فيكون الذي حصل مراده هو الرب دون الآخر) صفحة 304 الجزء 3 (المكتبة الشاملة).
أنا أعلم علم اليقين أن الإله واحد؛ لأنه لا شيء يكون واجبًا بنفسه إلا الله، ولكن سؤالي هو: هل فرض إله آخر بعالم آخر أليس ممتنعا لذاته ومحالا؟ وهل أورد ابن تيمية كلامه في الكتابين والقصور في فهمي أنا؟ وهل أورده في غير الكتابين؟
وأرجو قبل الرد مراجعة كلام ابن تيميه كله في الكتابين، لأن ربط الكلام ببعضه يوضح كلامه؛ لأنه حتى عندما يناقش قول الله: إذا لذهب كل إله بما خلق. لا يقول شيخ الإسلام إن العوالم تتعدد، بل يرد بأن العالم مرتبط ببعضه، وكأن ذهاب كل إله بما خلق، سيكون في عالم واحد أيضًا.
وآسف جدًا جدًا عن الإطالة، وأرجو أن يكون الرد سريعاً كرماً منكم.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن السائل يجيب على بعض ما يسأل عنه في ثنايا كلامه، حيث يقول: "لا يقول شيخ الإسلام إن العوالم تتعدد، بل يرد بأن العالم مرتبط ببعضه، وكأن ذهاب كل إله بما خلق سيكون في عالم واحد" إذن هذه نقطة مفروغ منها، لا تحتاج إلى توضيح؛ لأن كلام شيخ الإسلام فيها واضح، وهو من البديهيات التي لا تشكل على أحد من المسلمين.

أما ما أشكل على السائل من قول شيخ الإسلام: "وهذا أمر مستقر في فطر بني آدم وعقولهم، وإن تنوعت العبارات عنه، وإن كان قد يحتاج إذا تغيرت فطرة أحدهم باشتباه الألفاظ، والمعاني إلى بسط وإيضاح، فإنهم يعلمون أنه لا يجتمع ملكان متساويان في القدرة، والملك إن لم يكن ملك هذا، منفصلاً عن ملك هذا"، وكذلك العبارة الثانية وما شابهها، فواضح أن شيخ الإسلام -رحمه الله- يطرح افتراضات، وأمثلة ليناقش بها المخالف، وليس إقرارًا منه بتعدد العوالم، أو بإمكانية ذلك عقلًا، والأمثلة، والافتراضات لا بد أن تكون من الأمور المحسوسة التي يشاهدها الناس في حياتهم، حتى تكون مفهومة لهم.

ولذا نجده يقول في كتابه منهاج السنة النبوية: ولكن بعض الناس لا يتصور هذا تصورًا جيدًا، بل يسبق إلى ذهنه المشتركان من الناس في فعل من الأفعال، والمشتركان لا يفعل أحدهما جميع ذلك الفعل، ولا كانت قدرته حاصلة بالاشتراك، بل بالاشتراك زادت قدرته، وكان كل منهما يمكنه حال الانفراد أن يفعل شيئًا من الأشياء، ويريد خلاف ما يريد الآخر، وإذا أراد خلافه، فإن تقاومت قدرتهما، تمانعا فلم يفعلا شيئًا، وإن قوي أحدهما، قهر الآخر، وإن لم يكن لأحدهما قدرة حال الانفراد، لم تحصل له حال الاجتماع إلا من غيرهما، مع أن هذا لا يعرف له وجود، بل المعروف أن يكون لكل منهما حال الانفراد قدرة ما فتكمل عند الاجتماع.

وأيضا فالمشتركان في الفعل والمفعول لا بد أن يتميز فعل كل منهما عن الآخر، لا يكون الشيء الواحد بعينه مشتركًا فيه، بحيث يكون هذا فعله والآخر فعله، فإن هذا ممتنع كما تقدم. فلو كان ربان لكان مخلوق كل واحد منهما، متميزًا عن مخلوق الآخر كما قال تعالى: {إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} [سورة المؤمنون: 91] فذكر سبحانه وجوب امتياز المفعولين، ووجوب قهر أحدهما للآخر، كما تقدم تقريره، وكلاهما ممتنع. فهذه الطرق وأمثالها مما يبين بها أئمة النظار توحيد الربوبية، وهي طرق صحيحة عقلية لم يهتد هؤلاء المتأخرون إلى معرفة توجيهها وتقريرها. اهـ.

ويقول أيضًا -في درء تعارض العقل والنقل-: لما قرر أولاً امتناع ربين فعلهما واحد، قرر امتناع أرباب تختلف أفعالهم، فإن اختلافهم في الأفعال يمنع أن يكون المفعول واحداً والعالم واحداً. اهـ.

ثم يقول في موضع آخر منه: ... وهذا معنى قوله تعالى: {إذا لذهب كل إله بما خلق} [المؤمنون: 91]، وهذا ممتنع، فإن العالم مرتبط بعضه ببعض ارتباطاً يوجب أن فاعل هذا ليس هو مستغنياً عن فاعل الآخر، لاحتياج بعض أجزاء العالم إلى بعض. اهـ.

وعليه، فملخص كلام ابن تيمية في هذا الشأن أنه يمتنع وجود إله مستحق للعبادة مع الله سبحانه، إذ لو وجد أكثر من إله، لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض، فوجدنا عوالم مختلفة، متناحرة، وغير منتظمة، وهو ما لم يحصل، فالعالم واحد، وهو عالم متسق تسير أموره في نظام بديع لا يصدر إلا عن رب واحد سبحانه.

وبالتالي، فوجود إله آخر، في عالم آخر، أمر مستحيل عقلًا وشرعًا، ولكن -كما قدمنا- عند مناقشة المخالف تطرح كل حججه، وشبهاته حتى يبين خطؤها وزيفها، وقد جاء القرآن بمثل هذا الأسلوب في آيات كثيرة، كقوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ {الطور:35}، وقوله سبحانه: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ {المؤمنون:91}.

أما بخصوص ما إذا كان شيخ الإسلام أورد كلاماً خاصًا بهذه المسألة يذكر فيه -نصًا- أنه يستحيل عقلًا وجود رب آخر في عالم آخر، فإن كل كلامه في هذا الشأن دال على هذا المعنى بشكل واضح، وهو فضلًا عن ذلك من البديهيات المسلم بها، فوجود رب آخر في عالم آخر لا يقبله العقل، ولا النقل -كما تقدم-، والآية الكريمة صريحة في ذلك: ... إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ {المؤمنون:91}. ومعلوم أنه لم يذهب كل إله بما خلق، ولم يَعْلُ إله على إله، بل الخلق كله للمتفرد بالخلق سبحانه وهو العالي وحده على كل شيء.

وراجع لمزيد الفائدة الفتاوى التالية: 210655، 129287، 52377، 127234.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني