الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الحكمة من التفريق بين صلاة الليل وصلاة النهار

السؤال

لماذا تكون القراءة سراً في صلاة الظهر والعصر بينما تكون في صلاة الفجر والمغرب والعشاء جهراً؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

فلا شك أن شريعتنا الإسلامية مبنية على مراعاة الحكمة والمصلحة في أحكامها وشرائعها، فما من أمر من الأمور أو نهي من النواهي أو إرشاد من الإرشادات إلا والشريعة ترمي من ورائه لجلب مصلحة أو دفع مفسدة، وهذا أمر ثابت في الشريعة يدل عليه استقراء الكتاب والسنة، قال تعالى في تعليل رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107].
والرحمة تتضمن رعاية مصالح العباد، ودرأ المفاسد عنهم، وقال جل وعلا في بيان الحكمة من نهي الأزواج عن إتيان النساء في حال الحيض: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) [البقرة:222].
وقال في بيان الحكمة من تحريم الخمر والميسر: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة:91].
وقال صلى الله عليه وسلم في بيان تعليل الأمر بالزواج: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء" متفق عليه.
إلى آخر هذه النصوص التي تدل على أن الشريعة ما وضعت إلا لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل ودفع المفاسد عنهم، والتي لو ذهبنا نتتبعها من القرآن والسنة لزادت -كما يقول الشوكاني في إرشاد الفحول- على عشرة آلاف موضع.
ولاشك أن معرفة المصالح، والحكم التي بنيت عليها الأحكام مما يزيد المسلم طمأنينة، ويبين سمو الشريعة وعظمتها، لكن بعض هذه الحكم والمصالح قد تخفى ولا تظهر لكثير من الناس، فشدة التعلق بها، والبحث عنها قد يوقع في الحيرة، ويضعف الانقياد، بل قد يوقع في الكفر، كما جرى لإبليس، فعندما أمره الله بالسجود لآدم خفيت عليه الحكمة من هذا الأمر، فأبى السجود لآدم، واعترض على الله بعقله القاصر، قال الله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) [الإسراء:61].
ولهذا حكى الله عن المؤمنين التسليم المطلق لأحكامه، فقال عز من قائل: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) [الأحزاب:36].
فننصح السائل بعدم الجري وراء الحكم والعلل، فما ظهر منها فالحمد لله، وما لم يظهر فليقل فيه كما قال الراسخون في العلم في قوله تعالى: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [آل عمران:7].
وإذا تقرر هذا، فقد قال ابن القيم -رحمه الله- في إعلام الموقعين: (وأما التفريق بين صلاة الليل وصلاة النهار، ففي غاية المناسبة والحكمة، فإن الليل مظنة هدوء الأصوات، وسكون الحركات، وفراغ القلوب، واجتماع الهمم المشتتة بالنهار، فالنهار محل السبح الطويل بالقلب والبدن... ولهذا كانت السنة تطويل قراءة الفجر على سائر الصلوات، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها ما بين الستين إلى المائة، لأن القلب أفرغ ما يكون من الشواغل. أما النهار فلما كان بضد ذلك، كانت قراءة صلاته سرية؛ إلا إذا عارض في ذلك معارض أرجح منه، كالمجامع العظيمة في العيدين والجمعة والاستسقاء والخسوف، فإن الجهر حينئذٍ أحسن وأبلغ في تحصيل المقصود، وأنفع للجمع، وفيه من قراءة كلام الله عليهم، وتبليغه في المجامع العظام ما هو أعظم مقاصد الرسالة). ا.هـ
من أعلام الموقعين.
وقال صاحب حاشية الجمل: (حكمة الجهر في موضعه والإسرار في موضعه أنه لما كان الليل محل الخلوة ويطيب فيه السمر شرع الجهر فيه إظهاراً للذة مناجاة العبد لربه... والنهار لما كان محل الشواغل والاختلاط بالناس طلب الإسرار لعدم صلاحيته للتفرغ للمناجاة، وألحق الصبح بالصلاة الليلية لأن وقته ليس للشواغل عادة).
هذا وقد ذكر العلماء حكماً أخرى، ولا يمكننا القطع بأنها أو أي منها سر التفريق بين صلاة الليل والنهار في الجهر والإسرار، وحسبنا أن نقول كما أرشدنا ربنا: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة:285].
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني