الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تهنئة النصارى بأعيادهم ليس من البر المشروع لهم

السؤال

أود أن أسأل عن جواز تهنئة النصارى بعيدهم؛ فمن أفتي بحرمة التهنئة كان بداعي أن ذلك إقرارا لهم على الباطل، وذلك لا يجوز. ولكن يقول الله تعالى:(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم). والبر هو أعلى درجات المعاملة التي أوصى بها الله في معاملة الوالدين، أليست تهنئتهم من البر الذي أمر به الله؟
وموضوع أن في ذلك إقرارا لهم على الباطل: ألم يقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل امرئ ما نوى)؟ فقد أقوم بتهنئة أحدهم ونيتي هي البر وليس الإقرار بما يفعله. غير أن النصارى يهنئوننا بأعيادنا، وهم بالطبع لا يؤمنون بها، فقد قال تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)، فهم يتمسكون بعقائدهم ومعتقداتهم أيضا، ورغم ذلك فهم يهنئوننا بأعيادنا!
آسف على الإطالة، ولكن قد اختلط الأمر عليّ، وأرجو أن يكون الجواب الشافي هنا -إن شاء الله-.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا بد من التفريق بين البر الذي هو من أعمال السلوك الظاهرة، وبين الموالاة والمحبة التي هي من أعمال القلب الباطنة؛ فالمسلم مطالب بالبر والإحسان إلى الكفار المسالمين الذين لا يعينون علينا أعداءنا، وفي الوقت نفسه يبغضهم في الله؛ لكفرهم به، وتكذيبهم لرسله، من غير أن يحمله ذلك على ظلمهم أو التعدي على حقوقهم.
قال ابن الوزير في (إيثار الحق على الخلق) -في مسألة الولاء والبراء، والتكفير والتفسيق، وما يتعلق بذلك، قال-: وفي هذا فروع مفيدة؛ الأول: أن هذا كله في الحب الذي هو في القلب، وخالصة لأجل الدين، وذلك للمؤمنين المتقين -بالإجماع- وللمسلمين الموحدين إذا كان لأجل إسلامهم وتوحيدهم عند أهل السنة، كما يأتي. وأما المخالقة، والمنافعة، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك: فيستحب بذله لجميع الخلق، إلا ما كان يقتضي مفسدة، كالذلة؛ فلا يبذل للعدو في حال الحرب. اهـ.
وقد عقد القرافي في (الفروق) فصلًا للفرق بين قاعدة بر أهل الذمة، وبين قاعدة التودد لهم، ومما قال فيه: لا بد من الجمع بين هذه النصوص، وأن الإحسان لأهل الذمة مطلوب، وأن التودد والموالاة منهي عنهما، والبابان ملتبسان فيحتاجان إلى الفرق. وسر الفرق: أن عقد الذمة يوجب حقوقًا علينا لهم؛ لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمة الله تعالى وذمة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك: فقد ضيع ذمة الله تعالى وذمة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وذمة دين الإسلام ... وإذا كان عقد الذمة بهذه المثابة، وتعين علينا أن نبرهم بكل أمر لا يكون ظاهره يدل على موادة القلوب، ولا تعظيم شعائر الكفر؛ فمتى أدى إلى أحد هذين امتنع، وصار من قبل ما نهي عنه في الآية وغيرها ... أما ما أمر به من برهم ومن غير مودة باطنية، فالرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وإكساء عاريهم، ولين القول لهم على سبيل اللطف لهم والرحمة، لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفا منا بهم، لا خوفا وتعظيما، والدعاء لهم بالهداية، وأن يُجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم وإيصالهم لجميع حقوقهم، وكل خير يحسن من الأعلى مع الأسفل أن يفعله، ومن العدو أن يفعله مع عدوه؛ فإن ذلك من مكارم الأخلاق، فجميع ما نفعله معهم من ذلك ينبغي أن يكون من هذا القبيل، لا على وجه العزة والجلالة منا، ولا على وجه التعظيم لهم وتحقير أنفسنا بذلك الصنيع لهم، وينبغي لنا أن نستحضر في قلوبنا ما جبلوا عليه من بغضنا وتكذيب نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وأنهم لو قدروا علينا لاستأصلوا شأفتنا، واستولوا على دمائنا وأموالنا، وأنهم من أشد العصاة لربنا ومالكنا -عز وجل-، ثم نعاملهم بعد ذلك بما تقدم ذكره؛ امتثالا لأمر ربنا -عز وجل-، وأمر نبينا -صلى الله عليه وسلم-، لا محبة فيهم ولا تعظيما لهم، ولا نظهر آثار تلك الأمور التي نستحضرها في قلوبنا من صفاتهم الذميمة؛ لأن عقد العهد يمنعنا من ذلك، فنستحضرها حتى يمنعنا من الود الباطن لهم والمحرم علينا خاصة ... اهـ.
وإذا تقرر هذا؛ اتضح أن ما يؤول إلى مودة القلب، وتعظيم شعائر الكفر، لا يدخل في معنى البر، ولا يجوز فعله. ومثال الفرق بين الأمرين في أمر تهنئة الكفار: أن ما كان منها في أمر من أمور المعاش مما نشترك نحن وهم فيه، فلا بأس بذلك، كالتهنئة بالزواج، والشفاء، والرزق بالمال والولد، وقدوم الغائب، والسلامة من المكروه، ونحو ذلك. بخلاف ما كان منها على شعيرة من شعائر الدين الباطل مما يغضب الله ويسخطه! فهذا لا يجوز قطعًا وحتمًا؛ ولذلك عقد ابن القيم في (أحكام أهل الذمة) فصلًا في تعزيتهم، وفي تهنئتهم بزوجة، أو ولد، أو قدوم غائب، أو عافية، أو سلامة من مكروه، ونحو ذلك، وقال: فهذا في التهنئة بالأمور المشتركة. وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق؛ مثل: أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد، ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثمًا عند الله، وأشد مقتًا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه. وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبدا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه، وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات، وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء؛ تجنبًا لمقت الله وسقوطهم من عينه .. اهـ.
وراجع -لمزيد البيان والتفصيل في بقية جوانب الجواب- الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 26883، 105164، 137312، 252079، 110926.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني