الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

أريد من حضراتكم أن توضحوا لي قصة نزول الحجاب كاملة، وما الفرق بين الحجاب الذي نزل في سودة ـ رضي الله عنها ـ عندما كانت تريد الخروج لحاجتها، والذي نزل في زينب بنت جحش عند زواج النبي صلى الله عليه وسلم بها؟ وفي أي عام كان كل منهما؟.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فخلاصة القول أن الحجاب فرض في قصة زينب سنة خمس من الهجرة، ثم إن عمر ـ رضي الله عنه ـ أراد أن تُحجب شخوص أزواج النبي بالبيوت أو الهودج، ونحو ذلك ـ وليس فقط أن يستترن بالحجاب ـ فرخص الله لهن في ذلك للحاجة، ومن أهل العلم من ذهب إلى أن هذا كان فرضا عليهن أن يسترن شخوصهن إلا لضرورة كقضاء الحاجة.

وأفاد الحافظ ابن حجر أن قصة سودة بعدها بيسير حتى إن الواقعتين سبب نزول الآية، قال ابن حجر في فتح الباري: قوله ـ أي عمرـ: (احجب) أي امنعهن من الخروج من بيوتهن; بدليل أن عمر بعد نزول آية الحجاب قال لسودة ما قال كما سيأتي قريبا، ويحتمل أن يكون أراد أولا الأمر بستر وجوههن، فلما وقع الأمر بوفق ما أراد أحب أيضا أن يحجب أشخاصهن مبالغة في التستر فلم يجب لأجل الضرورة، وهذا أظهر الاحتمالين، وقد كان عمر يعد نزول آية الحجاب من موافقاته كما سيأتي في تفسير سورة الأحزاب، وعلى هذا فقد كان لهن في التستر عند قضاء الحاجة حالات: أولها بالظلمة لأنهن كن يخرجن بالليل دون النهار كما قالت عائشة في هذا الحديث "كن يخرجن بالليل" وسيأتي في حديث عائشة في قصة الإفك "فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع، وهو متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل"، انتهى. ثم نزل الحجاب فتسترن بالثياب، لكن كانت أشخاصهن ربما تتميز; ولهذا قال عمر لسودة في المرة الثانية بعد نزول الحجاب: أما والله ما تخفين علينا، ثم اتخذت الكنف في البيوت فتسترن بها كما في حديث عائشة في قصة الإفك أيضا فإن فيها "وذلك قبل أن تتخذ الكنف".انتهى.

وقال: وقوله في آخره قد عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله عز وجل الحجاب، ويجمع بينه وبين حديث أنس في نزول الحجاب بسبب قصة زينب أن عمر حرص على ذلك حتى قال لسودة ما قال، فاتفقت القصة للذين قعدوا في البيت في زواج زينب، فنزلت الآية فكان كل من الأمرين سببا لنزولها. انتهى.

ولنسرد القصتين؛ فأما قصة زينب ففي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون، قال: فأخذ كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام من القوم، ـ زاد عاصم، وابن عبد الأعلى في حديثهما، قال: فقعد ثلاثة ـ وإن النبي صلى الله عليه وسلم جاء ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقوا، قال: فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا، قال: فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، قال: وأنزل الله عز وجل يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ـ إلى قوله ـ إن ذلكم كان عند الله عظيما.

وأما قصة سودة فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب فقال: يا سودة أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين، قالت: فانكفأت راجعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت فقالت: يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: "إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن".

قال النووي في شرح مسلم: قال القاضي عياض فرض الحجاب مما اختص به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فهو فرض عليهن بلا خلاف فى الوجه والكفين، فلايجوز لهن كشف ذلك لشهادة ولا غيرها، ولا يجوز لهن إظهار شخوصهن وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه الضرورة من الخروج للبراز، قال الله تعالى: وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب. وقد كن إذا قعدن للناس جلسن من وراء الحجاب، وإذا خرجن حجبن وسترن أشخاصهن كما جاء في حديث حفصة يوم وفاة عمر، ولما توفيت زينب رضي الله عنها جعلوا لها قبة فوق نعشها تستر شخصها هذا آخر كلام القاضي. اهـ

قال ابن حجر في الفتح: وفي دعوى وجوب حجب أشخاصهن مطلقا إلا في حاجة البراز نظر، فقد كن يسافرن للحج وغيره، ومن ضرورة ذلك الطواف والسعي وفيه بروز أشخاصهن، بل وفي حالة الركوب والنزول لا بد من ذلك، وكذا في خروجهن إلى المسجد النبوي وغيره. انتهى.

قال ابن الملقن في شرح البخاري: والجمع بين هذِه الأقوال ـ والله أعلم ـ أن بعض الرواة ضم قصة إلى أخرى، ونزلت الآية عند المجموع، وكان ذلك سنة خمس من الهجرة، وكان عمر وقع في ظنه نفرة عظيمة في أن يطلع أحد على حرم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى صرح له بقوله: احجب نساءك، ولم يزل ذلك عنده إلى أن نزل الحجاب، وبعده قصد أن لا يخرجن أصلًا، فأفرط في ذلك بحيث أنه أفضى إلى الحرج والمشقة والإضرار بهن، فإنهن محتاجات إلى الخروج كما قال ـ عليه السلام ـ: "قد أذن لَكُنَّ أن تخرجن لحاجتكن" ثم جاء الحجاب الثاني كما سلف. انتهى.

قال القسطلاني في شرح البخاري: (والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين) ولعله قصد المبالغة في احتجاب أمهات المؤمنين بحيث لا يبدين أشخاصهن أصلًا ولو كن مستترات... (قد أذن) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول (لكنّ أن تخرجن لحاجتكن) دفعًا للمشقة ورفعًا للحرج، وفيه تنبيه على أن المراد بالحجاب التستر حتى لا يبدو من جسدهن شيء لا حجب أشخاصهن في البيوت والمراد بالحاجة البراز. انتهى.

قال ابن الجوزي في كشف مشكل: وَأما آيَة الْحجاب فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ جَارِيا على عَادَة الْعَرَب فِي ترك الْحجاب، حَتَّى أَمر بذلك، وَالَّذِي أَشَارَ بِهِ عمر لم يكن يخفى على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه كَانَ ينْتَظر الْوَحْي فِي الْأَشْيَاء، وَكَانَ السَّبَب فِي نزُول الْحجاب أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوج زَيْنَب، وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا، فَأكل جمَاعَة من الصَّحَابَة عِنْده فِي الْبَيْت، وَهِي مولية وَجههَا للحائط، فانتظر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خُرُوجهمْ فَلم يخرجُوا، وجلسوا يتحدثون، فَخرج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَلم يخرجُوا، ثمَّ عَاد وَلم يخرجُوا، فَنزلت: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تدْخلُوا بيُوت النَّبِي إِلَّا أَن يُؤذن لكم} [الْأَحْزَاب: 53] .انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني