الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

كل ذنب وإن كان كبيرة من الكبائر أو الشرك، فإن الله يغفر ذلك جميعا بالتوبة، وهنالك آية: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ـ وهنا قيل: خالدا فيها ـ فهل الآية منسوخة أو خاصة بوقت معين، وفي النهاية نزل الحكم الأخير، وهو مغفرة كل شيء بالتوبة؟ وهنالك قصة مشهورة يرويها مشايخ ثقاة في التلفاز، عن الرجل الذي قتل نفوسا كثيرة وبحث عن التوبة ومات في طريقها وقاست الملائكة، وحكم له بالجنة.
فكيف ذلك إخوتي والتوبة من القتل لها شروط كثيرة مذكورة في القرآن، وقد تتطلب القصاص أو الدية، أو السماح، حسبما يحدد أهل المقتول؟ وكيف سيقتصون؟
وآمر آخر مرتبط بالسؤال: وأنا أكتبه ظهرت لي فتوي أريد أن أفهم ما بها، وهي برقم: 65219، ففيها: يذكر السائل أحاديث صحيحة، وفي الإجابة فضيلتكم قلتم حمل الأمر من الجمهور على التغليظ، وكما فهمت التخويف الشديد وبيان خطورة الفعل والخطورة التي يقع فيها المسلم عند ارتكابه لهذا الفعل، فهل فهمي صحيح؟ وإن كان خاطئا وستقولون الصحيح، فأرجو معه أن تجعلوني أفهم التغليظ والآيات والأحاديث صحيحة صريحة، أليس لها كلها حكم قديم ونسخت بآيات المغفرة العامة والشاملة لأي ذنب إن صحب بتوبة؟ أتمني التوضيح بصورة ميسرة، وبارك الله في وقتكم وجهدكم وزادكم علما ونفعنا والأمة الإسلامية بكم.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن تعمد قتل المسلم بغير حق كبيرة من أكبر الكبائر، وجريمة من أعظم الجرائم، توعد الله تعالى عليها بقوله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا {النساء:93}.

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق. رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، وصححه الألباني.

وهذا الحكم ليس بمنسوخ، ولكنه مقيد بمن لم يتب، كما تفيده آية الفرقان والأدلة العامة في قبول توبة التائبين ومحمول على التغليظ فيمن لم يتب، للأدلة الدالة على عدم خلود الموحدين في النار، فقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار إذا ماتوا وهم موحدون، للأحاديث المتواترة في خروج الموحدين من النار، ومنها حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتاني آت من ربي فبشرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة. متفق عليه.
ومنها حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار, ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.. الحديث. متفق عليه.

قال الإمام أبوجعفر الطحاوي رحمه الله تعالى: وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موَحدون، وإن لم يكونوا تائبين، وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم، كما ذكر عز وجل في كتابه: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ـ وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته. اهـ.

وإذا تاب القاتل تاب الله عليه، وغفر له، لما يفيده عموم قول الله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً {الفرقان:68ـ70}.

وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة.
فدلت الآية والحديث على قبول توبة من قتل نفساً بغير حق، إذا تاب القاتل إلى الله توبة نصوحاً، ومن توبته أن يمكن أولياء الدم من استيفاء ما لهم، دلت على ذلك نصوص الوحي من القرآن والسنة، واختلف في حق المقتول، والراجح أن الله يعوض المقتول إذا تاب القاتل، قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في مدارج السالكين: إذا تاب القاتل من حق الله وسلم نفسه طوعا إلى الوارث ليستوفي منه حق موروثه سقط عنه حق الله بالتوبة وحق الأولياء بالاستيفاء، أو الصلح، أو العفو، وبقي حق المقتول يعوضه الله تعالى عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن ويصلح بينه وبينه، فلا يذهب حق هذا ولا تبطل توبة هذا. اهـ.

وقال شيخ الإسلام في الفتاوى: قَاتِلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ عَلَيْهِ حَقَّانِ: حَقٌّ لِلَّهِ بِكَوْنِهِ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ وَانْتَهَكَ حُرُمَاتِهِ، فَهَذَا الذَّنْبُ يَغْفِرُهُ اللَّهُ بِالتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا {الزمر:53} أَيْ لِمَنْ تَابَ، وَقَالَ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {الفرقان:68ـ70} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَجُلًا، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: أَبَعْدَ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ تَكُونُ لَك تَوْبَةٌ، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَك وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، وَلَكِنْ ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا فَإِنَّ فِيهَا قَوْمًا صَالِحِينَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فِي الطَّرِيقِ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَبَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَأَمَرَ أَنْ يُقَاسَ فَإِلَى أَيِّ الْقَرْيَتَيْنِ كَانَ أَقْرَبَ أُلْحِقَ بِهِ، فَوَجَدُوهُ أَقْرَبَ إلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ، فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ ـ وَالْحَقُّ الثَّانِي: حَقُّ الْآدَمِيِّينَ، فَعَلَى الْقَاتِلِ أَنْ يُعْطِيَ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ، فَيُمَكِّنَهُمْ مِنْ الْقِصَاصِ، أَوْ يُصَالِحَهُمْ بِمَالِ، أَوْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ الْعَفْوَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ حَقِّهِمْ، وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ، وَهَلْ يَبْقَى لِلْمَقْتُولِ عَلَيْهِ حَقٌّ يُطَالِبُهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، وَمَنْ قَالَ يَبْقَى لَهُ، فَإِنَّهُ يَسْتَكْثِرُ الْقَاتِلُ مِنْ الْحَسَنَاتِ حَتَّى يُعْطِيَ الْمَقْتُولَ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَيَبْقَى لَهُ مَا يَبْقَى، فَإِذَا اسْتَكْثَرَ الْقَاتِلُ التَّائِبُ مِنْ الْحَسَنَاتِ رُجِيَتْ لَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ، وَأَنْجَاهُ مِنْ النَّارِ، وَلَا يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ. اهـ.

وقال البهوتي في الكشاف: وتقبل توبة القاتل، لعموم حديث: التائب من الذنب كمن لا ذنب له ـ فلو اقتص منه أو عفي عنه من المجني عليه أو من ولي الجناية، فهل يطالبه المقتول في الآخرة؟ فيه وجهان، قال ابن القيم: والتحقيق أن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله تعالى، وحق للمقتول، وحق للولي ـ أي الوارث للمقتول، فإذا أسلم القاتل نفسه طوعا واختيارا إلى الولي ندما على ما فعل وخوفا من الله وتوبة نصوحا سقط حق الله تعالى بالتوبة وحق الأولياء بالاستيفاء أو الصلح أو العفو عنه، وبقي حق المقتول يعوضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب ويصلح بينه، أي القاتل التائب، وبينه: أي المقتول. اهـ.

وجاء في الموسوعة الفقهية: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ لِلْقَاتِل عَمْدًا ظُلْمًا تَوْبَةً كَسَائِرِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، لِلنُّصُوصِ الْخَاصَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَالنُّصُوصِ الْعَامَّةِ الْوَارِدَةِ فِي قَبُول تَوْبَةِ كُل النَّاسِ: مِنْهَا قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِل عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّل اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ـ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ـ فَيُحْمَل مُطْلَقُ هَذِهِ الآْيَةِ عَلَى مُقَيَّدِ آيَةِ الْفُرْقَانِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا، إِلاَّ مَنْ تَابَ, وَلأِنَّ تَوْبَةَ الْكَافِرِ بِدُخُولِهِ إِلَى الإْسْلاَمِ تُقْبَل بِالإْجْمَاعِ، فَتَوْبَةُ الْقَاتِل أَوْلَى. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني