الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تارك الصلاة في الميزان الشرعي

السؤال

عندي سؤال يحيرني:
قرأت أنه عند جمهور الفقهاء بما فيهم ثلاثة من الأئمة الأربعة لا يكفرون تارك الصلاة كسلًا، وقرأت أيضًا أنه قد نُقل عن جمع من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم قد كفروا تارك الصلاة. فكيف اختلف رأي الأئمة عن رأي الصحابة -رضي الله عنهم-؟ وهل لم يعلموا أن الصحابة -رضي الله عنهم- فعلوا هذا أم ماذا؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فما ذكرته من كون مذهب الجمهور أن تارك الصلاة لا يكفر كفرًا ناقلًا عن الملة كلام صحيح، وما ذكرته من أنه ذكر عن جمع من الصحابة التصريح بكفره أيضًا كلام صحيح، وقد قال عبد الله بن شقيق: كان أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. ذكره الترمذي في جامعه.

وعذر الجمهور في المنقول عن الصحابة -رضي الله عنهم- هو عذرهم في الأحاديث المصرحة بكفر تارك الصلاة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة. أخرجه مسلم، وغيره من الأحاديث، وقد تأول الجمهور هذه الأدلة بوجوه من التأويل؛ قال الشوكاني: وتأولوا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَسَائِرُ أَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ عُقُوبَةَ الْكَافِرِ وَهِيَ الْقَتْلُ، وَأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَؤُولُ بِهِ إِلَى الْكُفْرِ، أَوْ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ فِعْلُ الْكُفَّارِ... ثم قال: وَالْحَقُّ أَنَّهُ كَافِرٌ يُقْتَلُ، أَمَّا كُفْرُهُ فَلِأَنَّ الْأَحَادِيثَ قَدْ صَحَّتْ أَنَّ الشَّارِعَ سَمَّى تَارِكَ الصَّلَاةِ بِذَلِكَ الِاسْمِ وَجَعَلَ الْحَائِلَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ إِطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ هُوَ الصَّلَاةُ، فَتَرْكُهَا مُقْتَضٍ لِجَوَازِ الْإِطْلَاقِ وَلَا يَلْزَمُنَا شَيْءٌ مِنَ الْمُعَارَضَاتِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْأَوَّلُونَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ غَيْرَ مَانِعٍ الْمَغْفِرَةَ وَاسْتِحْقَاقَ الشَّفَاعَةِ كَكُفْرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ الَّتِي سَمَّاهَا الشَّارِعُ كُفْرًا، فلا من ملجئ إِلَى التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي وَقَعَ النَّاسُ فِي مَضِيقِهَا. انتهى.

وحاصله: أن الشوكاني يوافق الجمهور ويتأول الكفر الوارد في النصوص من السنة وكلام الصحابة على الكفر الذي هو دون كفر، وإنما حملهم على هذه التأويلات إرادة الجمع بين هذه النصوص وبين ما يقتضي أن تارك الصلاة من جملة المسلمين؛ كحديث عبادة: خمس صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ مَنْ أَتَى بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ؛ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ. رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. والحاصل: أن للجمهور مأخذهم الواضح المتجه في هذه المسألة، ولتأويلهم مساغ ووجه ظاهر، والمسألة من مسائل النزاع المشهور، وهي من مسائل الخلاف السائغ بين أهل العلم، وانظر لبيان ما نفتي به فيها فتوانا رقم: 130853.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني