الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

السؤال

في حديث: "يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون، وتنكرون؛ فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي و تابع"
كيف يكون الإنكار باللسان أم ماذا؟
وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فهذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، عن أم سلمة مرفوعا، بلفظ: "إنه يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع. قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا". أي من كره بقلبه، وأنكر بقلبه". اهـ.
والقائل: "أي من كره بقلبه، وأنكر بقلبه" هو قتادة، أحد رواة الحديث، كما بينه أبو داود في روايته. وعنده لفظ آخر للحديث، وهو: "ستكون عليكم أئمة تعرفون منهم وتنكرون، فمن أنكر بلسانه فقد برئ، ومن كره بقلبه فقد سلم، ولكن من رضي وتابع".

ورواه المروزي في (تعظيم قدر الصلاة) وعنده تفسير الحسن البصري شيخ قتادة للحديث، حيث قال: فمن أنكر بلسانه فقد برئ، فقد ذهب زمان هذا. ومن كره بقلبه فقد سلم، وقد جاء زمان هذا. قال: ولكن من رضي وتابع، قال الحسن: فأبعده الله. اهـ.
وأخرجه البيهقي في (الاعتقاد) وبيَّن هذه الألفاظ كلها، وبوب عليه: (باب طاعة الولاة، ولزوم الجماعة، وإنكار المنكر بلسانه، أو كراهيته بقلبه، والصبر على ما يصيبه من سلطانه).

ويستفاد مما سبق، أن الإنكار بالقلب أصل لازم، ثم يصحبه الإنكار باللسان، بحسب الحال والمآل، فهو مشروع في الجملة، ولكن ينبغي النظر في كيفيته وآثاره.

قال ابن الملقن في (التوضيح): إن قلت: الإنكار على الأمراء في العلانية من السنة؛ لما روى سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن طارق بن شهاب أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الجهاد أفضل؟ قال: "كلمة حق عند سلطان جائر". قلت: اختلف السلف في تأويله ـ كما قال الطبري ـ فقيل: إنه محمول على ما إذا أمن على نفسه القتل، أو أن يلحقه من البلاء ما لا قبل له به، وهو مذهب أسامة بن زيد، وروي عن ابن مسعود، وابن عباس، وحذيفة. وروي عن مطرف بن الشخير أنه قال: والله لو لم يكن لي دين، حتى أقوم إلى رجل معه ألف سيف، فأنبذ إليه كلمة؛ فيقتلني، إن ديني إذا لضيق.

وقيل: الواجب على من رأى منكرا من ذي سلطان، أن ينكره علانية، وكيف أمكنه، روي ذلك عن عمر، وأبي، واحتجوا بقوله عليه السلام : "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ... الحديث. وبقوله عليه السلام: "إذا هابت أمتي أن يقولوا للظالم: يا ظالم، فقد تودع منهم". وقيل: من رأى من سلطانه منكرا، فالواجب عليه أن ينكره بقلبه فقط. واحتجوا بحديث أم سلمة مرفوعا: "يستعمل عليكم أمراء بعدي تعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع" قالوا: يا رسول الله، أفلا نقاتلهم؟ قال: "لا، ما صلوا".

والصواب -كما قال الطبري- أن الواجب على كل من رأى منكرا أن ينكره، إذا لم يخف على نفسه عقوبة لا قبل له بها؛ لورود الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة للأئمة، وقوله عليه السلام: "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه" قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: "يتعرض من البلاء لما لا يطيق" اهـ.
وسئلت اللجنة الدائمة للإفتاء عن حديث: «سيكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن نابذهم فقد نجا، ومن اعتزلهم فقد سلم، ومن خالطهم فقد هلك» وهل هو معارض لعدم الخروج على الإمام؟
فأجابت: الحديث الذي ذكرته صحيح، وليس فيه معارضة لمعتقد أهل السنة في السمع والطاعة لولاة الأمر في المعروف، ولزوم الجماعة، وعدم الخروج عليهم وإن جاروا، ما لم يحصل منهم كفر بواح؛ لأن المقصود بالمنابذة في الحديث: الإنكار باللسان، كما بينه شراح الحديث.

قال المناوي في (شرح الجامع 4 132) : "فمن نابذهم" يعني: أنكر بلسانه ما لا يوافق الشرع "نجا" من النفاق، والمداهنة، "ومن اعتزلهم" منكرا بقلبه "يسلم" من العقوبة على ترك إنكار المنكر، "ومن خالطهم" راضيا بفسقهم (هلك) يعني: وقع فيما يوجب الهلاك الأخروي) انتهى.

وفي (صحيح مسلم) ما يؤيد هذا المعنى من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنه يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا» اهـ.
وسئل الشيخ ابن عثيمين في (لقاء الباب المفتوح): هناك من يقول: إن الإنكار على الولاة علناً من منهج السلف، ويستشهد بحديث أبي سعيد الخدري، في إنكاره على مروان بن الحكم حينما قدم الخطبة على الصلاة، وبقوله صلى الله عليه وسلم: (ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم) وبحديث: (سيد الشهداء رجل قام إلى إمام جائر فأمره، ونهاه؛ فقتله) فهل هذا كلام صحيح؟ وكيف الجمع بين هذه الآثار الصحيحة وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (من أراد أن ينصح لذي سلطان، فلا يبده علانية) نرجو التفصيل في هذه المسألة .. ؟
فأجاب: هذا السؤال مهم، وجوابه أهم منه في الواقع، ولا شك أن إنكار المنكر واجب على كل قادر عليه، لقول الله تبارك وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:104-105]. واللام في قوله: (ولتكن) لام الأمر، وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم) أي: كما لعن بني إسرائيل، الذين قال الله عنهم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:78-79].

ولكن يجب أن نعلم أن الأوامر الشرعية في مثل هذه الأمور لها مجال، ولا بد من استعمال الحكمة، فإذا رأينا أن الإنكار علناً يزول به المنكر، ويحصل به الخير فلننكر علناً، وإذا رأينا أن الإنكار علناً لا يزول به الشر، ولا يحصل به الخير، بل يزداد ضغط الولاة على المنكرين وأهل الخير، فإن الخير أن ننكر سراً، وبهذا تجتمع الأدلة، فتكون الأدلة الدالة على أن الإنكار يكون علناً، فيما إذا كنا نتوقع فيه المصلحة، وهي حصول الخير وزوال الشر، والنصوص الدالة على أن الإنكار يكون سراً، فيما إذا كان إعلان الإنكار يزداد به الشر، ولا يحصل به الخير ... اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني