الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التأويل الصحيح لقوله تعالى (عليكم أنفسكم) وقول شعيب لقومه (وما أريد أن أخالفكم..)

السؤال

يحذر البعض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويقولون بقول نبي الله شعيب عليه السلام: وما أريد أن أخالفكم ـ وقوله تعالى: يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ـ فكيف الرد على ذلك؟.
وشكرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فليس في الآيتين حجة للمحذر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وينبغي الرد عليهم ببيان المعنى الصحيح للآيتين وعدم معارضتهما للنصوص التي تحض على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن أردت بيان ذلك فاعلم أن الآية الأولى تفيد أن الآمر والناهي يتعين عليه أن يكون أشد الناس التزاما بما يأمر به، وابتعادا عما ينهى عنه، كما يدل له أيضا قول الله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ {البقرة:44}، وفي حديث الصحيحين أنه قال: يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه في النار، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه.

ففي هذا حض للمسلم على العمل بما يدعو إليه، وليس أمرا بترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمقرر عند أهل العلم أنه يجب على المرء أن يأمر بالمعروف وإن كان لا يأتيه, وينهى عن المنكر وإن كان يأتيه، لأن فعل المعروف والأمر به واجبان، فترك أحدهما لا يسقط الآخر, قال ابن كثير: ليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف، وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب، عليه السلام: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ {هود: 88} فَكُلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف. هـ.

وقال السفاريني ـ رحمه الله ـ في غذاء الألباب: ليس من شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون فاعله عدلا في المعتمد, بل الإمام والحاكم والعالم والجاهل والعدل والفاسق في ذلك سواء... نعم، ينبغي أن لا يخالف قوله فعله, بل يأمر بالمعروف ويأتمر به, وينهى عن المنكر وينزجر عنه... إلى أن قال: يجب على كل مؤمن أن يكون تقيا عدلا, ولكن فلا بد للناس من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو لم يعظ الناس إلا معصوم أو محفوظ لتعطل الأمر والنهي مع كونه دعامة الدين, وقد قيل: إذا لم يعظ الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد ـ وقيل للحسن البصري: إن فلانا لا يعظ ويقول أخاف أن أقول ما لا أفعل، فقال الحسن: وأينا يفعل ما يقول؟ ود الشيطان أنه قد ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر، والحاصل أنه يجب على كل مؤمن مع الشروط المتقدمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو فاسقا، أو بغير إذن ولي أمر حتى على جلسائه وشركائه في المعصية وعلى نفسه فينكر عليها, لأن الناس مكلفون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسنذكر طرفا صالحا من الأحاديث الواردة في ذلك قريبا إن شاء الله تعالى؟ والله أعلم.....اهـ.

وأما عن قوله تعالى: عليكم أنفسكم... فإن وقتها إنما هو وقت إعراض الناس عن قبول النصح، وهذا لم يأت بعد، فما زال الناس ـ في زماننا هذا ـ بخير، ولا زلنا نرى أثر الدعوة إلى الله سبحانه، وأثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من دخول الناس في دين الله واستجابتهم لأمره سبحانه وإقبالهم على الخير وانفضاضهم عن الشر، وكل هذا ظاهر لا ينكر، فقد جاء في كتاب المعتصر من المختصر من مشكل الآثار: قول أبي بكر: تضعونها في غير موضعها ـ أراد به تستعملونها في غير زمنها، وإن زمنها الذي تستعمل فيه هو الزمن الذي وصفه صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ثعلبة الخشني ـ ونعوذ بالله منه ـ وإن ما قبله من الأزمنة فرض الله فيه على عباده الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لا يهلك العامة بعمل الخاصة، ولكن إذا رأوا المنكر بين أظهرهم فلم يغيروه عذب الله العامة والخاصة، ففي هذا تأكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يكون الزمان الذي ينقطع فيه ذلك، وهو الزمان الموصوف في حديث أبي ثعلبة الذي لا منفعة فيه بأمر بمعروف ولا بنهي عن منكر، ولا قوة مع من ينكره على القيام بالواجب في ذلك، فسقط الفرض عنه، ويرجع أمره إلى خاصة نفسه ولا يضره مع ذلك من ضل، هكذا يقول أهل الآثار. انتهى.

وقال ابن رجب في جامع العلوم: قد ورد ما يستدل به على سقوط الأمر والنهي عند عدم القبول والانتفاع به، ففي سنن أبي داود وابن ماجه والترمذي عن أبي ثعلبة الخشني أنه قيل له: كيف تقول في هذه الآية: عليكم أنفسكم {المائدة: 105} فقال: أما والله لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بل ائتمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع عنك أمر العوام.... وكذلك روي عن طائفة من الصحابة في قوله تعالى: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ـ قالوا: لم يأت تأويلها بعد، إنما تأويلها في آخر الزمان، وعن ابن مسعود قال: إذا اختلفت القلوب والأهواء، وألبستم شيعا، وذاق بعضكم بأس بعض، فيأمر الإنسان حينئذ نفسه، حينئذ تأويل هذه الآية، وعن ابن عمر: قال: هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم، وقال جبير بن نفير عن جماعة من الصحابة، قالوا: إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك حينئذ بنفسك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت، وعن مكحول، قال: لم يأت تأويلها بعد إذا هاب الواعظ، وأنكر الموعوظ، فعليك حينئذ بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت.... وهذا كله قد يحمل على أن من عجز عن الأمر بالمعروف، أو خاف الضرر، سقط. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني