الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل البكاء والحزن عند المصيبة ينافي الصبر والرضا

السؤال

البكاء عند نزول البلاء وأثناءه للألم الحاصل منه هل يعتبر من عدم الصبر على قضاء الله وقدره؟ وإذا سأل إنسان المبتلى وقد ظهرت له أشياء لم يقصد المبتلى ظهورها هل يجيبه أو يذكر له لفظا عاما عما فيه؟ وكيف يصل الإنسان لمرتبة الرضا عن الأقدار المؤلمة؟ وما هو الأجر المتحصل له؟.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فمجرد البكاء عند نزول البلاء لا ينافي الصبر على قضاء الله وقدره؛ ما لم يكن مع البكاء ندب ونياحة، فقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم وبكى أصحابه معه، ففي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ قَالَ: اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ، فَأَتَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ فِي غَشِيَّةٍ، فَقَالَ: «أَقَدْ قَضَى؟» قَالُوا: لَا، يَا رَسُولَ اللهِ فَبَكَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَوْا، فَقَالَ: «أَلَا تَسْمَعُونَ؟ إِنَّ اللهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا ـ وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ ـ أَوْ يَرْحَمُ».
وقد ذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه عدة الصابرين اثني عشر دليلا على جواز البكاء عند المصيبة، منها حديث ابن عمر السابق في الصحيحين، ثم قال رحمه الله بعد أن سرد بقية الأدلة: فهذه اثنتا عشرة حجة تدل على عدم كراهة البكاء، فتعين حمل أحاديث النهى على البكاء الذى معه ندب ونياحة، ولهذا جاء في بعض ألفاظ حديث ابن عمر: "الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه" وفي بعضها "يعذب بما نيح عليه" وقال البخاري في صحيحه قال عمر: دعهن يبكين على أبى سليمان يعنى خالد بن الوليد ما لم يكن نقع أو لقلقة. والنقع حث التراب، واللقلقة الصوت. انتهى.
وأما إذا سئل المبتلى عن حاله فأخبر بذلك لا لقصد الشكوى فلا بأس بذلك، وإن كتم فهو أكمل، فقد جاء في الآداب الشرعية لابن مفلح ـ رحمه الله ـ: قال الشيخ مجد الدين في شرح الهداية ولا بأس أن يخبر بما يجده من ألم ووجع لغرض صحيح، لا لقصد الشكوى، واحتج أحمد بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعائشة لما قالت: «وارأساه. قال: بل أنا وارأساه» واحتج ابن المبارك بقول ابن مسعود للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «إنك لتوعك وعكا شديدا، فقال أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم» متفق عليه وقال ابن عقيل في الفنون قوله تعالى: {لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا} [الكهف: 62] يدل على جواز الاستراحة إلى نوع من الشكوى عند إمساس البلوى ونظيره {يا أسفى على يوسف} [يوسف: 84] {مسني الضر} [الأنبياء: 83] «ما زالت أكلة خيبر تعاودني» انتهى كلام ابن عقيل. وقال رجل للإمام أحمد: كيف تجدك يا أبا عبد الله؟ قال: بخير في عافية، فقال: حممت البارحة قال إذا قلت لك: أنا في عافية فحسبك لا تخرجني إلى ما أكره، قال ابن الجوزي: إذا كانت المصيبة مما يمكن كتمانها فكتمانها من أعمال الله الخفية، وقال ابن الجوزي في موضع آخر: شكوى المريض مخرجة من التوكل، وقد كانوا يكرهون أنين المريض لأنه يترجم عن الشكوى، وذكر هذا النص عن أحمد وقال: فأما وصف المريض للطبيب ما يجده، فإنه لا يضره، انتهى كلامه. وقال عبد الله إن أخت بشر بن الحارث قالت للإمام أحمد: يا أبا عبد الله أنين المريض شكوى قال: أرجو أنه لا يكون شكوى ولكنه اشتكى إلى الله، وذكر غير واحد في كراهة الأنين في المرض روايتين، ورويت الكراهة عن طاوس. انتهى. وقال ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ الشَّكْوَى إِلَى الْخَلْقِ، وَالشَّكْوَى وَإِنْ كَانَ فِيهَا رَاحَةٌ إِلا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ضَعْفٍ وَذُلٍّ وَالصَّبْرُ عَنْهَا دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةٍ وَعِزٍّ. انتهى. من الثبات عند الممات. وراجعي الفتوى رقم: 273613.
وأما عن كيفية الوصول إلى مرتبة الرضا، فقد قال الشيخ محمد المنجد ـ حفظه الله ـ في سلسلة أعمال القلوب: لو قال أحدهم : نريد تحصيل الرضا، نقول له: يجب أن يكون لديك توكلٌ صحيحٌ وتسليمٌ وتفويضٌ ثم ينتج الرضا بعد ذلك... ولذلك لم يُوجِب الله على عباده المنازل العالية من الرضا؛ لأن ذلك شيءٌ صعبٌ جداً، و أكثر النفوس ربما لا يحصُل لها ذلك. انتهى.
وأما الأجر المتحصل لمن رضي بأقدار الله وقضائه، فعظيمة، فإن صاحبه نظير المجاهد في سبيل الله، قد أخذ بالحظ الوافر من الإسلام كما يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ في مدارج السالكين: الرضى معقد نظام الدين ظاهره وباطنه، فإن القضايا لا تخلو من خمسة أنواع: فتنقسم قسمين: دينية وكونية وهي مأمورات ومنهيات ومباحات ونعم ملذة وبلايا مؤلمة، فإذا استعمل العبد الرضى في ذلك كله فقد أخذ بالحظ الوافر من الإسلام وفاز بالقدح المعلى... الرضى من أعمال القلوب نظير الجهاد من أعمال الجوارح: فإن كل واحد منهما ذروة سنام الإيمان، قال أبو الدرداء: ذروة سنام الإيمان: الصبر للحكم والرضى بالقدر. انتهى.
وللفائدة يرجى مراجعة هذه الفتاوى التالية أرقامها: 310270، 174759، 302353.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني