الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد سبق لنا بيان الفرق بين إقرار النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله، ففعله يدل على السنية مطلقًا، بخلاف تقريره المجرد من الثناء والاستحسان، فهو لا يدل إلا على رفع الحظر والإنكار، هذا من حيث الإجمال في إقراراته صلى الله عليه وسلم، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 344353.
وأما إقراره المقترن بالثناء والاستحسان، فهو يدل على الاستحباب، ومن ذلك حديث أبي سعيد الذي ذكره السائل، ففي رواية للبخاري قال: وما يدريك أنها رقية؟ أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم بسهم. وفي رواية لأبي داود: من أين علمتم أنها رقية؟ أحسنتم، واضربوا لي معكم بسهم.
قال في (عون المعبود): (أحسنتم) أي في الرقية، أو في توقفكم عن التصرف في الجعل حتى استأذنتموني، أو أعم من ذلك. اهـ.
فالرقية بالفاتحة مشروعة، بل مستحبة.
قال البغوي في شرح السنة: المنهي من الرقى ما كان فيه شرك، أو كان يذكر مردة الشياطين، أو ما كان منها بغير لسان العرب، ولا يدرى ما هو، ولعله يدخله سحر، أو كفر، فأما ما كان بالقرآن، وبذكر الله عز وجل، فإنه جائز مستحب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، «كان ينفث على نفسه بالمعوذات». وقال صلى الله عليه وسلم للذي رقى بفاتحة الكتاب على غنم: «من أين علمتم أنها رقية؟ أحسنتم، اقتسموا، واضربوا لي معكم بسهم»، وقال: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله" ... اهـ.
وأما مسألة المفاضلة بين الرقية بالفاتحة، والرقية بالمعوذتين، فالذي يقتضيه حديث أبي سعيد الثاني، وحديث عائشة هو تفضيل المعوذتين في الرقية، لكون ذلك هو آخر ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن حجر في شرح حديث عائشة: قوله "في المرض الذي مات فيه" ليس قيدا في ذلك، وإنما أشارت عائشة إلى أن ذلك وقع في آخر حياته، وأن ذلك لم ينسخ. اهـ.
ودلالة حديث أبي سعيد الثاني على هذه الأفضلية أصرح، وأوضح.
قال ابن حجر: أخرج الترمذي وحسنه، والنسائي من حديث أبي سعيد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان، وعين الإنسان، حتى نزلت المعوذات، فأخذ بها وترك ما سواها. وهذا لا يدل على المنع من التعوذ بغير هاتين السورتين، بل يدل على الأولوية، ولا سيما مع ثبوت التعوذ بغيرهما، وإنما اجتزأ بهما؛ لما اشتملتا عليه من جوامع الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا.
وقد أجمع العلماء على جواز الرقى، عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى، أو بأسمائه وصفاته. وباللسان العربي، أو بما يعرف معناه من غيره. وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بذات الله تعالى. اهـ.
وقال أيضا: لا يلزم من مشروعية الرقى بالمعوذات، أن يشرع بغيرها من القرآن؛ لاحتمال أن يكون في المعوذات سر ليس في غيرها، وقد ذكرنا من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم ترك ما عدا المعوذات. لكن ثبتت الرقية بفاتحة الكتاب، فدل على أن لا اختصاص للمعوذات، ولعل هذا هو السر في تعقيب المصنف هذه الترجمة بباب (الرقى بفاتحة الكتاب) وفي الفاتحة من معنى الاستعاذة بالله، الاستعانة به، فمهما كان فيه استعاذة، أو استعانة بالله وحده، أو ما يعطي معنى ذلك، فالاسترقاء به مشروع، ويجاب عن حديث أبي سعيد بأن المراد أنه ترك ما كان يتعوذ به من الكلام غير القرآن. اهـ.
وهذا الأخير هو الذي اقتصر عليه المناوي، وتبعه المباركفوي في شرح سنن الترمذي.
قال المناوي في (فيض القدير): (أخذ بهما وترك ما سواهما) أي مما كان يتعوذ به من الكلام غير القرآن؛ لما ثبت أنه كان يرقي بالفاتحة، وفيهما الاستعاذة بالله، فكان يرقي بها تارة، ويرقي بالمعوذتين أخرى، لما تضمنتاه من الاستعاذة من كل مكروه. اهـ.
وجنح بعض أهل العلم إلى أن ترك ما عدا المعوذتين، إنما هو في التعوذ من الجان وعين الإنسان خاصة، دون ما سواهما.
قال الشوكاني في (تحفة الذاكرين): في الحديث دليل على أن الاستعاذة بهاتين السورتين، أولى من الاستعاذة بغيرهما، لكن لا في مطلق الاستعاذة، بل في التعوذ من الجان وعين الإنسان. اهـ.
وقال المُظْهِري في شرح المصابيح: قوله: "يتعوَّذ من الجانِّ، وعين الإنسان"؛ يعني: كان يقول: أعوذ بالله من الجانِّ، وعين الإنسان، قبل أن تنزل عليه المعوِّذتان، فلمَّا نزلَتَا كان يقرؤهما على نفسه، وعلى كل مَن احتاج إلى رقية، وتركَ قراءةَ التعوُّذ من الجانِّ وعين الإنسان، وما أشبه ذلك. اهـ.
وقال الكرماني في شرح المصابيح نحوه.
ومن أهل العلم من حمل هذا الترك على غالب أحواله صلى الله عليه وسلم.
قال الطيبي في المرقاة: (أخذ بهما) أي عمل بقراءتهما، والتعوذ بهما غالبا (وترك ما سواهما) أي: من الرقيات. اهـ.
ومما يرجح تفضيل التعوذ بالمعوذتين، ما ورد في فضلهما في هذا الباب، ومنه حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تر آيات أنزلت الليلة، لم ير مثلهن قط (قل أعوذ برب الفلق)، و (قل أعوذ برب الناس) رواه مسلم.
قال المظهري في شرح المصابيح: اعلم أن هاتين السورتين ليستا خيرًا من سائر السورِ على الإطلاق، بل معناه: ليست سورةٌ مثلَهما في قلةِ الألفاظِ، وكثرة المعاني من التعوُّذِ بالله من شرِّ الأشرار. اهـ.
ونقل ذلك عنه الطيبي في شرح المشكاة ثم قال: ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من عين الجان، وعين الإنسان. فلما نزلت المعوذتان، أخذ بهما وترك ما سواهما، ولما سحر استشفي بهما. وإنما كان كذلك؛ لأنهما من الجوامع في هذا الباب. اهـ.
وقال الأثيوبي في شرح سنن النسائي: والمعنى أنه لم ينزل الله تعالى علي فيما مضى من الزمان مثل هؤلاء الآيات في بابهن، وهو الاستعاذة، يعني أنه لم يكن آيات سورة كلهن تعويذ للقارئ غير هاتين السورتين. اهـ.
وعن عقبة بن عامر أيضا قال: بينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين (الجحفة) و (الأبواء)، إذ غشيتنا ريح وظلمة شديدة، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ بـ {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} ويقول: "يا عقبة! تعوذ بهما، فما تعوذ متعوذ بمثلهما. قال: وسمعته يؤمنا بهما في الصلاة. قال المنذري: رواه أبو داود .. ورواه ابن حبان في "صحيحه"، ولفظه: قلت: يا رسول الله! أقرئني آيا من سورة {هود}، وآيا من سورة {يوسف}. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا عقبة بن عامر! إنك لن تقرأ سورة أحب إلى الله، ولا أبلغ عنده من أن تقرأ {قل أعوذ برب الفلق}، فإن استطعت أن لا تفوتك في الصلاة، فافعل". ورواه الحاكم بنحو هذه، وقال: "صحيح الإسناد". وليس عندهما ذكر {قل أعوذ برب الناس}. اهـ. وصححه الألباني في صحيح الترغيب.
وقد عقد ابن القيم فصلا لتفسير المعوذتين، فجوَّده وفصَّل فيه تفصيلا حسنا، في بدائع الفوائد.
وقال: والمقصود الكلام على هاتين السورتين، وبيان عظيم منفعتهما، وشدة الحاجة بل الضرورة إليهما، وأنه لا يستغني عنهما أحد قط، وأن لهما تأثيرا خاصا في دفع السحر والعين، وسائر الشرور، وأن حاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين، أعظم من حاجته إلى النفس والطعام والشراب واللباس ... اهـ.
والله أعلم.