الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مذاهب العلماء فيما يجوز للعجوز إبداؤه من بدنها ووضعه من الثياب

السؤال

ما حكم كشف العجائز عن جزء من أذرعهن ورقابهن وآذانهن، سواء كانت الآذان فيها زينة أم لا؟ أرجو ذكر الحكم في المذاهب الأربعة.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد اختلف أهل العلم فيما يجوز للقواعد من النساء وضعه من الثياب، جاء في الموسوعة الفقهية تحت عنوان: وضع العجوز ثيابها ـ قال الله تعالى: والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن ـ وإنما خص القواعد بهذا الحكم لانصراف الأنفس عنهن، إذ لا مذهب للرجال فيهن، فأبيح لهن ما لم يبح لغيرهن، وأزيل عنهن كلفة التحفظ المتعب لهن، وللعلماء في تفسير قوله تعالى: ثيابهن ـ قولان:

أحدهما: تضع خمارها، وذلك في بيتها، ومن وراء سترها من ثوب أو جدار، قال القرطبي: قال قوم: الكبيرة التي أيست من النكاح لو بدا شعرها فلا بأس، فعلى هذا يجوز لها وضع الخمار.

والثاني: جلبابهن وهو قول ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وابن جبير وغيرهما، يعني به الرداء أو المقنعة التي فوق الخمار تضعه عنها إذا سترها ما بعده من الثياب، قال القرطبي: والصحيح أنها كالشابة في التستر، إلا أن الكبيرة تضع الجلباب الذي فوق الدرع والخمار. اهـ.

وفيها تحت عنوان: النظر إلى العجوز ـ يباح النظر من العجوز إلى ما يظهر غالبا، عند جمهور الفقهاء، لقول الله تعالى: والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم ـ قال ابن عباس رضي الله عنهما: استثناهن الله من قوله تعالى: وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ـ ولأن ما حرم النظر لأجله معدوم في جهتها، فأشبهت ذوات المحارم، وألحق الحنابلة ـ على الصحيح من المذهب ـ بالعجوز كل من لا تشتهى في جواز النظر إلى الوجه خاصة، وذهب الغزالي من الشافعية إلى إلحاق العجوز بالشابة، لأن الشهوة لا تنضبط، وهي محل الوطء. اهـ.

وعلى هذا؛ فبدوّ شيء مما يظهر غالبا، كجزء من الذراع أو الرقبة أو الأذن، جوَّزه بعض أهل العلم للعجائز من النساء، لا على سبيل التبرج بإظهار الزينة، وإنما على سبيل التخفيف ومراعاة المقاصد وعلل الأحكام، قال الكيا الهراسي في أحكام القرآن: معلوم أنه غير مجوز لها أن تكشف من بدنها عورة، لأنه إن كان حالة الخلوة بنفسها، فالعجوز والشابة سواء، وإن كان بين الناس، فالواجب حمله على الجلباب وما فوق الخمار لا نفس الخمار، لأن من شأن الجلباب أن يبلغ مع الستر النهاية، ومع الخمار قد ينكشف من رؤوسهن وأعناقهن بعض التكشف، فأبان الله تعالى أن هذا التحرز ليس وجوبه عليهن كوجوبه على الشابات، لأنه ليس في النظر إليهن من خوف الافتتان كما في النظر إلى الشابة، فلذلك قال في آخره: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ. اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: قال تعالى: والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن ـ فرخص للعجوز التي لا تطمع في النكاح أن تضع ثيابها فلا تلقي عليها جلبابها ولا تحتجب، وإن كانت مستثناة من الحرائر لزوال المفسدة الموجودة في غيرها، كما استثنى التابعين غير أولي الإربة من الرجال في إظهار الزينة لهم، لعدم الشهوة التي تتولد منها الفتنة. اهـ.

ونقل عنه ابن مفلح في الفروع: جواز النظر من المرأة التي لا تشتهى، إلى ما يظهر غالبا. اهـ.

وقال ابن قدامة في المغني: العجوز التي لا يشتهى مثلها، لا بأس بالنظر إلى ما يظهر منها غالبا، لقول الله تعالى: والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا ـ الآية، قال ابن عباس، في قوله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ـ [النور: 30 } وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن {النور: 31} الآية، قال: فنسخ واستثنى من ذلك: والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا {النور: 60} الآية، وفي معنى ذلك الشوهاء التي لا تشتهى. اهـ.

والحكم بجواز النظر يقتضي الحكم بجواز الإبداء، كما نص عليه كثير من الفقهاء، قال العلامة ابن القطان الفاسي في إحكام النظر في أحكام النظر بحاسة البصر: جواز البُدوِّ وتحريمه مرتَّب عنده ـ يعني الإمام مالكاً ـ على جواز النظر أو تحريمه، فكل موضع له فيه جواز النظر، فيه إجازة البدو، وسنتعرض بعدُ لبيان هذا، إن شاء الله تعالى. اهـ.

ثم قال بعد ذلك: الأظهر ـ وهو الذي أرى عليه نظر الأكثر من الفقهاء ـ وهو أن كلَّ مكان جاز فيه البدو جاز النظر إليه، وكل مكان حرم فيه البدو حرم فيه النظر إليه، لأنا إن قلنا: إن النظر فيه حرام والبدو للناظر جائز، كان إعانةً على الإِثم، وتمكينًا من المعصية، بمنزلة مَن تناول الحرير للباس ممّن لا يجوز له لباسه، والميتة للأكل ممن لا يجوز له أكلها، قال الله عَزَّ وَجَلَّ: وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ {المائدة: 2} ولأن المفهوم من الشريعة: أن كل ما جاز إبداؤه إنما جاز إذا كان الأمن، وما حرم إبداؤه إنما حرم لئلا يقع النظر إليه فيستحق ما خيف عليه من الفتنة، فمتى أُجيز إبداء شيء فقد أُجيز النظر إليه، ومتى حرم إبداء شيء فالذي لأجله حرم هو خوف النظر إليه، فالقول بجواز النظر إليه يناقض المنع من إبدائه، ويكون إذا قلنا: إن النظر جائز إلى ما حرم إبداؤه، كأن قد اطلعنا على الحرام وأبحنا الاطلاع على ما لا يحل، وإن لم يجز إبداؤه صار بمثابة العورة التي لا يجوز النظر إليها، لوجب سترها، وهل حرم إبداؤها إلا لكيلا ينظر إليها؟ فتحريم إبدائها يناقض جواز النظر إليها، هذا هو الصحيح عندي، فاعلمه، وبالله التوفيق. اهـ.

وقد ذكر ابن القطان خلاف أهل العلم في الثياب التي أبيح للعجوز وضعها، ورجح أنها لا تقتصر على الجلباب، بل تتناول مع ذلك الخمار، وقال: رخص لها أن تخرج دونهما وتبدو للرجال، ولكن إذا كانت من الكبر بحيث تنبو عنها الأبصار وتستقذر، وهذا قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وهذا هو الأظهر، فإن الآية إنما رخصت في وضع ثوب إن وضعته ذات زينة أمكن أن تتبرج بعد وضعه بزينتها، ولا يعدُّ تبرجًا إلا ما كان على الأجانب، فهذا أبيح للعجَّز القواعد وضعه، ولكن بأن لا يقصدن تبرُّجًا، وان كنّ غير محسّنات نيتهن وقصدهنّ فإنه أيضًا لا يصح منهن التبرج بالزينة، لما هن به من الكبر، فقوله: أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ـ إنما معناه: أن يضعن ثيابهن التي كان يجب عليهن إدناؤها، إذ كن شواب، من الجلباب والرداء وغيرهما، في هذه الحال التي لا يتصور منهن غيرها، وهي كونهن متبرجات بزينة، لعدم الزينة عندهن بالكبر، قال بعضهم: لما كان القواعد، أي ذوات الكبر المفرط، لا مذهب للرجال فيهن، أُرحن من عناء التستر، وخُفِّفَ عنهن قلة التحفظ، إذ علة وجوبه منعدمة. اهـ.
وأخيرا ننبه على أن هذا في العجوز التي بلغت من الكبر مبلغا يقطع معه الطمع والاشتهاء، قال ابن القطان: أما معنى القواعد، فقيل: هن اللاتي قعدن عن التصرُّف، وقيل: اللاتي قعدن عن الولد، وقيل: اللاتي لا يؤبه لهن، بل يستقذرن، وهذا هو الصحيح الذي خرجت به الآية في قوله: اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا ـ أي: قد بلغن من الكبر إلى حدٍّ قُطع رجاؤهن في رضا أحد من الخلق بهن، فاعلم ذلك، والله الموفق. اهـ.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني