الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

ما علاج الخوف من اختيار طريق الضلال في المستقبل، أو الخوف من سوء الخاتمة؟ أرجو ذكر آيات وأحاديث عن حفظ الله للعبد من اختياره السيئ، وهل آية: "فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى" تشمل هذا الأمر، أي: أن من فعل ما أمر، وانتهى عن المنكرات، لن يختار طريق الضلال في المستقبل؟ وجزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فالخوف من الضلال، وسوء الخاتمة، أمر حسن جميل، وهو دال على صدق إيمان العبد، وتصديقه بأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، وليس مطلوبًا علاج هذا الخوف، بل وجوده في القلب مطلوب؛ ليحصل المزيد من تعلق القلب بالله تعالى، والعلم بأنه وحده هو الذي يثبت من شاء على الهدى، وألا يركن العبد إلى نفسه فيزل ويضل، وإنما الذي يبحث عنه المسلم هو الطريق إلى تلافي هذا الأمر المخوف، وتفادي الوقوع في الضلال بعد الهدى، وحصول الزيغ والانحراف بعد الاستقامة، وسبيل ذلك أن يبقى هذا الخوف موجودًا في القلب؛ لكي يكون خوفًا صحيًّا، يحمل على التعلق بالله، وتوجيه الهمة نحو العمل الصالح، والاجتهاد في الطاعة، لا خوفًا مرضيًّا، يقعد عن العبادة، ويحمل على التواكل واتباع الهوى.

ومن طريق ذلك: مزيد التمسك بالكتاب والسنة، والعض عليهما بالنواجذ، فإن سنة الله الماضية أنه لا يخذل من علم منه الرغبة في الآخرة، وإيثارها على الدنيا الفانية، والإقبال عليه سبحانه، وفي حديث ابن عباس: احفظ الله يحفظك. رواه الترمذي، وغيره.

فمن أعظم سبل حفظ الله للعبد في دينه: أن يحفظ هو ربه تعالى، فيطيعه، ويقبل عليه، ويفعل مراضيه، ويبذل وسعه في طاعته، قال ابن رجب في شرح الحديث المتقدم مبينًا أن حفظ الله للعبد على نوعين، فأولهما: حفظه له في مصالح دنياه، ثم قال: النوع الثاني من الحفظ، وهو أشرف النوعين: حفظُ الله للعبد في دينه، وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المُضِلَّة، ومن الشهوات المحرَّمة، ويحفظ عليه دينَه عندَ موته، فيتوفَّاه على الإيمان، قال بعض السلَّف: إذا حضر الرجل الموت، يقال للملك: شمَّ رأسه، قال: أجد في رأسه القرآن، قال: شمَّ قلبه، قال: أجد في قلبه الصيام، قال: شمَّ قدميه، قال: أجد في قدميه القيام، قال: حَفظَ نفسَه، فحفظه الله...

وفي الجملة؛ فالله عز وجل يحفظُ على المؤمن الحافظ لحدود دينَه، ويحولُ بينَه وبين ما يُفسد عليه دينَه بأنواعٍ مِنَ الحفظ، وقد لا يشعرُ العبدُ ببعضها، وقد يكونُ كارهًا له، كما قال في حقِّ يوسُف عليه السلام: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ـ قال ابن عباس في قوله تعالى: أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ـ قال: يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار. انتهى.

ومن هذا المعنى ما دلت عليه الآية الكريمة المذكورة في السؤال: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: تكفل الله لمن قَرَأَ الْقُرْآن، وَعمل بِمَا فِيهِ، أن لَا يضل فِي الدُّنْيَا، وَلَا يشقى فِي الآخرة، ثمَّ قَرَأَ: فَإما يأتينكم مني هدى فَمن اتبع هُدَايَ فَلَا يضل وَلَا يشقى.

ومن أهم تلك الأسباب: الدعاء، ولزوم تعليق القلب بالله، وسؤاله التثبيت، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك. رواه أحمد، والترمذي، وحسنه.

وكان من دعاء الراسخين في العلم ما أخبر الله عنهم من قولهم: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ {آل عمران:8}.

ومن أعظم سبل الثبات: العلم الجازم بأن الهدى هدى الله، وأنه من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأنه: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ـ إلى غير ذلك من المعاني التي استحضارها والإيمان بها مدعاة لتعليق القلب بالله، وتكميل التوكل عليه في الهداية، والتثبيت عليها، وأن يرزق الله العبد حسن الخاتمة، فإن هذا كله فضل الله تعالى، يؤتيه من يشاء.

ومن أعظم أسباب ذلك: إحسان الظن بالله، فإنه تعالى عند ظن عبده به، فيظن العبد بالله أنه لن يخيبه، ولن يخذله، ولن يصرفه عن الهدى بعد إذ أكرمه بما أكرمه به، فكل هذه الأسباب تدفع حصول ذلك المخوف، وتحقق للعبد ما يرجوه من الثبات؛ حتى يلقى الله عز وجل مؤمنًا به -نسأل الله أن يختم لنا بخير، وأن يجعل عواقب أمورنا إلى خير-.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني