الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الإحسان.. تعريفه.. أنواعه.. طريق استجلابه

السؤال

أريد أن أسال عن علامات الإحسان وكيف نصل إليه؟
وإذا كان له شروط ما هي؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالله عز وجل قد كتب الإحسان على كل شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم في صحيحه. فليس الإحسان في معاملة الله تعالى وحده، بل وفي معاملة خلقه كذلك. وليست أصنافه على مرتبة واحدة، بل منه الواجب، ومنه المستحب، وكل بحسبه. قال العلامة السعدي في (بهجة قلوب الأبرار): الإحسان نوعان: - إحسان في عبادة الخالق، بأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه. وهو الجد في القيام بحقوق الله على وجه النصح والتكميل لها. - وإحسان في حقوق الخلق. وأصل الإحسان الواجب: أن تقوم بحقوقهم الواجبة، كالقيام ببر الوالدين، وصلة الأرحام، والإنصاف في جميع المعاملات، بإعطاء جميع ما عليك من الحقوق، كما أنك تأخذ مالك وافيا، قال تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم} [النساء: 36] فأمر بالإحسان إلى جميع هؤلاء. ويدخل في ذلك الإحسان إلى جميع نوع الإنسان، والإحسان إلى البهائم، حتى في الحالة التي تزهق فيها نفوسها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة". فمن استحق القتل لموجب قتل يضرب عنقه بالسيف، من دون تغرير ولا تمثيل ... واعلم أن الإحسان المأمور به نوعان: - أحدهما: واجب، وهو الإنصاف، والقيام بما يجب عليك للخلق بحسب ما توجه عليك من الحقوق. - والثاني: إحسان مستحب. وهو ما زاد على ذلك من بذل نفع بدني، أو مالي، أو علمي، أو توجيه لخير ديني، أو مصلحة دنيوية، فكل معروف صدقة، وكل ما أدخل السرور على الخلق صدقة وإحسان. وكل ما أزال عنهم ما يكرهون. ودفع عنهم ما لا يرتضون من قليل أو كثير، فهو صدقة وإحسان ... فالإحسان: هو بذل جميع المنافع من أي نوع كان، لأي مخلوق يكون، ولكنه يتفاوت بتفاوت المحسن إليهم، وحقهم ومقامهم، وبحسب الإحسان، وعظم موقعه، وعظيم نفعه، وبحسب إيمان المحسن وإخلاصه، والسبب الداعي له إلى ذلك .. والله تعالى يوجب على عباده العدل من الإحسان، ويندبهم إلى زيادة الفضل منه. اهـ.
وعلامة تبوء العبد لمقام الإحسان هي: الاستقامة على طاعة الله ظاهرا وباطنا، في معاملة خلقه، وفي خاصة نفسه، فتجده يتقن عبادة الله تعالى، ويأنس بذكره، ويؤدي شكر نعمه، وتجده مع الخلق باذلاً للندى، كافَّاً للأذى، مؤديا للنصيحة، تاركا لما لا يعنيه. فهذا إجمال علامات الإحسان!
قال الحافظ ابن رجب في (جامع العلوم والحكم): قال أبو أسامة: دخلت على محمد بن النضر الحارثي، فرأيته كأنه منقبض، فقلت: كأنك تكره أن تؤتى؟ قال أجل، فقلت: أوما تستوحش؟ فقال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني. وقيل لمالك بن مغول وهو جالس في بيته وحده: ألا تستوحش؟ فقال: ويستوحش مع الله أحد؟! وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ويقول: من لم تقر عينه بك فلا قرت عينه، ومن لم يأنس بك فلا أنس ... وعن إبراهيم بن أدهم، قال: أعلى الدرجات أن تنقطع إلى ربك، وتستأنس إليه بقلبك وعقلك وجميع جوارحك حتى لا ترجو إلا ربك، ولا تخاف إلا ذنبك، وترسخ محبته في قلبك حتى لا تؤثر عليها شيئا، فإذا كنت كذلك لم تبال في بر كنت أو في بحر، أو في سهل أو في جبل، وكان شوقك إلى لقاء الحبيب شوق الظمآن إلى الماء البارد، وشوق الجائع إلى الطعام الطيب، ويكون ذكر الله عندك أحلى من العسل، وأحلى من الماء العذب الصافي عند العطشان في اليوم الصائف. اهـ.
وقال أيضا: إذا حسن الإسلام، اقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات والمشتبهات والمكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها، فإن هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه، وبلغ إلى درجة الإحسان، وهو أن يعبد الله تعالى كأنه يراه، فإن لم يكن يراه، فإن الله يراه، فمن عبد الله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه، أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه، فقد حسن إسلامه، ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام، ويشتغل بما يعنيه فيه، فإنه يتولد من هذين المقامين الاستحياء من الله، وترك كل ما يستحيا منه. اهـ.
وأما كيفية الوصول إلى مرتبة الإحسان فتتلخص في قول النبي صلى الله عليه وسلم: الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء. رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني.

وفي الحديث القدسي: ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه. رواه البخاري.

قال الحافظ ابن رجب: المراد بهذا الكلام: أن من اجتهد بالتقرب إلى الله بالفرائض، ثم بالنوافل، قربه إليه، ورقاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه، فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى، ومحبته، وعظمته، وخوفه، ومهابته، وإجلاله، والأنس به، والشوق إليه، حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهدا له بعين البصيرة ... ولا يزال هذا الذي في قلوب المحبين المقربين يقوى حتى تمتلئ قلوبهم به، فلا يبقى في قلوبهم غيره، ولا تستطيع جوارحهم أن تنبعث إلا بموافقة ما في قلوبهم، ومن كان حاله هذا، قيل فيه: ما بقي في قلبه إلا الله، والمراد معرفته ومحبته وذكره ... فمتى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى، محا ذلك من القلب كل ما سواه، ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه، ولا إرادة إلا لما يريده منه مولاه، فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق نطق بالله، وإن سمع سمع به، وإن نظر نظر به، وإن بطش بطش به، فهذا هو المراد بقوله: «كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. اهـ. وانظر للفائدة الفتويين: 68358، 195123.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني