الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بطلان الزعم بأن قتال معاوية لعلي كان بغير اجتهاد

السؤال

هل يجوز إطلاق كلمة الباغي على معاوية -رضي الله عنه-؟ ومَن مِن العلماء أطلق عليه؟ وهل يجوز القول بأنه أخطأ خطأ غير اجتهادي؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن ما وقع في عهد الصحابة من القتال، أو تركه، كان باجتهاد منهم في الجملة، والذي ينبغي لنا هو أن نكف عما شجر بينهم، وأن نعقد قلوبنا على محبتهم، ونطلق ألسنتنا بالثناء عليهم، مع القطع بأنهم كانوا غير معصومين، ولكن ما يقع منهم من الخطأ هو باجتهاد مغفور ـ إن شاء الله ـ، وهذه طريقة أهل السنة والجماعة.

قال النووي: اعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ليست بداخلة في هذا الوعيد ـ يعني قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ـ ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم، والإمساك عما شجر بينهم، وتأويل قتالهم، وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية، ولا محض الدنيا، بل اعتقد كل فريق أنه المحق، ومخالفه يأثم، فوجب عليه قتاله ليرجع إلى الله، وكان بعضهم مصيباً وبعضهم مخطئاً معذوراً في الخطأ، لأنه اجتهاد، والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه. اهـ. من شرح صحيح مسلم.

فنوصيك -إن أردت السلامة في دينك- بالإمساك عما شجر بين الصحابة، والاشتغال بإشاعة فضائلهم، وإذاعة مناقبهم في العالمين، وما أحسن ما قاله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز حين سئل: ما تقول في أهل صفين؟ فقال: تلك دماء طهر الله يدي منها، أفلا أطهر منها لساني.

وأما عن قضية وصف معاوية رضي الله عنه وجيشه بالبغاة، فقد فصلناها تفصيلا شافيا في الفتوى: 253342. وخلاصتها: أن اعتقاد خطأ معاوية رضي الله عنه في اجتهاده في قتال علي رضي الله عنه، وتسمية جيشه بغاة، لا يستلزم الحكم بإثمهم فضلًا عما فوق ذلك.

وقد بين ذلك ابن حزم بإسهاب فقال: وأما أمر معاوية رضي الله عنه فبخلاف ذلك، ولم يقاتله علي رضي الله عنه لامتناعه من بيعته؛ لأنه كان يسعه في ذلك ما وسع ابن عمر وغيره، لكن قاتله لامتناعه من إنفاذ أوامره في جميع أرض الشام، وهو الإمام الواجبة طاعته، فعلي المصيب في هذا، ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة، لكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه عن ولد عثمان وولد الحكم بن أبي العاص لسنه ولقوته على الطلب بذلك كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الرحمن بن سهل أخا عبد الله بن سهل المقتول بخيبر بالسكوت وهو أخو المقتول وقال له: كبر كبر، وروى الكبر الكبر. فسكت عبد الرحمن وتكلم محيصة وحويصة أبناء مسعود، وهما ابنا عم المقتول لأنهما كانا أسن من أخيه.

فلم يطلب معاوية من ذلك إلا ما كان له من الحق أن يطلبه، وأصاب في ذلك الأثر الذي ذكرنا، وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط، فله أجر الاجتهاد في ذلك، ولا إثم عليه فيما حرم من الإصابة كسائر المخطئين في اجتهادهم الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم أجرا واحدا، وللمصيب أجرين.

وقد علمنا أن من لزمه حق واجب وامتنع من أدائه وقاتل دونه، فإنه يجب على الإمام أن يقاتله وإن كان منا، وليس ذلك بمؤثر في عدالته وفضله، فبالمقابل هو مأجور لاجتهاده ونيته في طلب الخير، فبهذا قطعنا على صواب علي رضي الله عنه وصحة أمانته، وأنه صاحب الحق، وإن له أجرين: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة.

وقطعنا أن معاوية رضي الله عنه ومن معه مخطئون مجتهدون مأجورون أجرا واحدا، وأيضا في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن مارقة تمرق بين طائفتين من أمته يقتلها أولى الطائفتين بالحق، فمرقت تلك المارقة وهم الخوارج من أصحاب علي وأصحاب معاوية، فقتلهم علي وأصحابه، فصح أنهم أولى الطائفتين بالحق، وأيضا الخبر الصحيح من رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتل عمارا الفئة الباغية.
(قال أبو محمد) المجتهد المخطئ إذا قاتل على ما يرى أنه الحق قاصدا إلى الله تعالى نيته غير عالم بأنه مخطئ فهو باعثه وإن كان مأجورا أو لا حد عليه إذا ترك القاتل ولا قود، وأما إذا قاتل وهو يدري أنه مخطئ فهذا المحارب تلزمه المحاربة والقود وهذا يفسق ويخرج لا المجتهد المخطئ، وبيان ذلك قول الله تعالى {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} إلى قوله {إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم} فهذا نص قولنا دون تكلف تأويل ولا زوال عن موجب ظاهر الآية، وقد سماهم الله عز وجل مؤمنين باغين بعضهم أخوة بعض في حين تقاتلهم وأهل العدل المبغي عليهم والمأمورين بالإصلاح بينهم وبينهم ولم يصفهم عز وجل بفسق من أجل ذلك التقاتل ولا ينقص إيمان، وإنما هم مخطئون باغون ولا يريد واحد منهم قتل آخر. اهـ. باختصار من الفصل في الملل والنحل.
فيتبين مما سبق أن الزعم بأن قتال معاوية رضي الله عنه لعلي رضي الله عنه كان بغير اجتهاد زعم باطل لا يصح.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني