الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد

السؤال

قد يتساءل البعض عن العلاقة بين الوحي والعقل، فرفع البعض من شأن العقل حتى جعله مساويا للوحي أو يزيد كما غض البعض من شأنه حتى أنكروا عليه أن يصل إلى شيء من الحق، ما وجهة نظر الإسلام تجاه هذين الرأيين؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: قال الله تعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [البقرة:269]. وقال تعالى: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الرعد:19]. وقال تعالى: وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [إبراهيم:52]. وقال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [صّ:29]. وقال تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:18]. وقال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]. فمن قرأ هذه الآيات بتأمل وبتدبر علم أن الله تعالى خلق هذا العقل ليتعقل به الوحي ويعرفه، فكيف يسوغ أن يُرفع شأن العقل حتى يكون مساوياً للوحي أو يزيد؟ وكيف يمكن إنكار وجود العقل وقيمته؟ لقد أخطأ هؤلاء وأولئك جميعاً، كل في ما ذهب إليه، ذلك لأن العقل والوحي كليهما من عند الله ولا تعارض بينهما. فمتى كانت المقدمات التي استند إليها العقل صحيحة قطعية، كانت النتائج كذلك قطعية، ويستحيل أن يحصل تناقض بين قطعي وقطعي، سواء كانا سمعيين أو عقليين أو كان أحدهما سمعياً والآخر عقلياً. فما كان من الأمور التي تعرض لها الوحي وللعقل فيها مجال، فإما أن تكون نصوص الوحي قطعية الدلالة والورود، فإن نتائج العقل لن تناقضها إلا إذا بنيت على مقدمات خاطئة، وإما أن تكون النتائج التي توصل إليها العقل قطعية لكونها مبنية على مقدمات صحيحة قطعية، فإن نصوص الوحي لن تناقضها إلا إذا لم تكن قطعية الورود أو كانت دلالتها غير قطعية، وعليه فإن القطعيّ منهما يحكم على المحتمِل. وأما ما لا مجال فيه للعقل من أمور الوحي فإن المؤمن يؤمن به وسيسلم به، قال الله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [آل عمران:7]. قال الإمام الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة: ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والإستسلام. قال شارح الطحاوية: أي لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحي، وينقاد إليها، ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه، روي عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال: من الله الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، وهذا كلام جامع نافع، وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل وهو: أن العقل مع النقل، كالعامي المقلد مع العالم المجتهد، بل هو دون ذلك بكثير، فإن العامي يمكنه أن يصير عالماً، ولا يمكن العالم أن يصير نبياً رسولاً، فإذا عرف العامي المقلد عالماً، فدل عليه عامياً آخر، ثم اختلف المفتي والدال، فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي دون الدال، فلو قال الدال، الصواب معي دون المفتي، لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفتٍ، فإذا قدمت قوله على قولي قدحت ي الأصل الذي به عرفت أنه مفتٍ، فلزم القدح في فرعه! فيقول له المستفتي: أنت لما شهدت له بأنه مفتٍ، ودللت عليه، شهدت له بوجوب تقليده دونك، فموافقتي لك في هذا العلم المعين، لا تستلزم موافقتك في كل مسألة، وخطؤك في ما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك، لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفتٍ، هذا مع علمه أن ذلك المفتي قد يخطئ، والعقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله تعالى، لا يجوز عليه الخطأ، فيجب عليه التسليم له، والانقياد لأمره. انتهى. كما أن العقل مع الوحي كنور العين مع نور الشمس، فإن العين لا تبصر إلا مع ضوء الشمس، قال شيخ الإسلام رحمه الله: بل كما أن نور العين لا يرى إلا مع ظهور نور قدامه، فكذلك نور العقل لا يهتدي إلا إذا طلعت عليه شمس الرسالة. انتهى. والله أعلم.

مواد ذات صلة

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني