الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

توجيه القراءتين في قوله تعالى: واللهُ مُتِمُّ نورِه - واللهُ مُتِمٌّ نورَه، بالتنوين والإضافة

السؤال

ما هي الفروقُ بَيْنَ "وما أنتَ بمُسْمِعٍ مَن في القبورِ" بتنوين بمُسْمِعٍ، وبَيْنَ "وما أنتَ بمُسْمِعِ مَن في القبورِ" بِدُونِ تنوينِها؟ بمعنى: ما الذي يُحدِثه التنوينُ عند دخوله على الكلمة، أو عند حذفه منها؟ أريدُ توضيحًا يشفي العليلَ، أو مَصدرَ عِلمٍ للاستزادة.
جزاكم اللهُ خيرَ الجزاءِ، وأجزلَ لكم العطاءَ.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالقراءة بغير تنوين في قوله تعالى: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ. {فاطر:22} ليست من القراءات المتواترة، بل هي قراءة شاذة، ولم نجد من تعرَّض لتوجيه هذه المسألة في هذه القراءة تحديداً، ولكن معلومٌ أنَّ هذا النوع من الإضافة يعتبر إضافة لفظية، سميت لفظية لأنَّ فائدتها ترجع إلى اللفظ، وذلك لتخفيف النطق باللفظ، فقولنا: "زيدٌ ضاربُ عمرٍو" أخفُّ في النطق من قولنا: "زيدٌ ضاربٌ عمراً".

وقد يضيف بعض النحاة إلى ذلك فائدة معنوية، وهي: أنَّ الوصف إذا أُعْمِلَ ولمْ يُضَف، دلَّ على الحال والاستقبال فقط، وإذا أضيف احتمل الدلالة على الماضي والحال والاستقبال.

وممّن ذكر ذلك ابن زنجلة في توجيه القراءتين السبعيتين: التنوين والإضافة في قوله تعالى: واللهُ مُتِمُّ نورِه - واللهُ مُتِمٌّ نورَه. في سورة الصف، حيث قال في كتابه: حُجَّة القراءات: وَقد ذكر فِيهَا وَجْهَان:

أَحدهمَا: أَن الْإِضَافَة قد استعملتها الْعَرَب فِي الْمَاضِي والمنتظر، وَأَن التَّنْوِين لم يسْتَعْمل إِلَّا فِي المنتظر خَاصَّة، فَلَمَّا كَانَا مستعملين وَقد نزل بهما الْقُرْآن، أَخذ بِأَكْثَرَ الْوَجْهَيْنِ أصلاً.

وَالْوَجْه الآخر: أَن يُرَاد بِهِ التَّنْوِين، ثمَّ يحذف التَّنْوِين، طلباً للتَّخْفِيف، كَمَا قَالَ جلّ وَعز {كل نفس ذائقة الْمَوْت}، وَقَوله {إِنَّكُم لذائقوا الْعَذَاب الْأَلِيم}، {هَل أدلكم على تِجَارَة تنجيكم من عَذَاب أَلِيم}. اهـ.

ويرجح د. فاضل صالح السامرائي أن الفائدة من هذه الإضافة ليست مقصورة على مجرد الفائدة اللفظة التي يذكرها النحاة، بل هنالك هذه الفائدة المعنوية التي ذكرها ابن زنجلة أولى بالاعتبار، ويذكر فائدة أخرى وهي: أن الوصف إذا أعمل ولم يضف، ظهر فيه جانب الحدث وقربه من الفعل، وإذا أضيف، ظهر فيه جانب الاسمية أكثر، قال في كتابه معاني النحو (3/ 132): والتحقيق أن لكل تعبير غرضًا لا يؤديه الآخر، فالإعمال نص في الدلالة على الحال أو الاستقبال، والإضافة ليست نصًا في ذلك، فإنك إذا قلت: (أنا ضاربٌ محمدًا) كان ذلك دالاً على الحدث في الحال أو الاستقبال، قال تعالى: {إني خالق بشرًا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} [ص: 71 - 72]، فهو للاستقبال، أما الإضافة فليست نصًا في هذا المعنى، بل تحتمل المضيَّ والاستمرار والحال، والاستقبال، فإنك إذا قلت: (أنا مكرمُ محمدٍ) احتمل ذلك المضيَّ، والحال والاستقبال، والاستمرار، قال تعالى {فاطر السماوات والأرض} [إبراهيم: 10]، وهو ماض.
وقال: {إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأني تؤفكون فالق الإصباح} [الأنعام: 95 - 96]، وهو استمرار. فالإضافة تعبير احتمالي، يحتمل أكثر من معنى، بخلاف الإعمال، فإنه تعبير قطعي، هذا من جهة. ومن جهة أخرى أنه في الإعمال يكون الوصف ملحوظًا فيه جانب الحدث، وقربه من الفعلية، في حين أنه في الإضافة يكون ملحوظًا فيه جانب الاسمية، وذلك أن الإضافة من خصائص الأسماء.

أما أخذ الفاعل والمفعول، فالأصل فيه للفعل، فأنت تقول: (هذا بائعٌ السمكَ) بمعنى (يبيع) وتقول: (رأيت محمداً آكلاً التفاحةَ) بمعنى: (يأكلها)، فإذا قلت: (هذا بائعُ السمكِ، وآكلُ التفاحِ) بالإضافة، دلَّ على الذات، كما تقول: (مالكُ الدارِ).

وإذا قلت: (هذا كاتبٌ العقودَ)، كان المعنى يكتبها، أي يقوم بكتابتها الآن، أو سيقوم بكتابتها، بخلاف (هذا كاتبُ العقودِ)، فإن المعنى هذا المخصصُ لها، والموظفُ فيها، ونحوه أن تقول: (هذا حارسٌ المدرسةَ)، و (هذا حارسُ المدرسةِ)، فإن المعنى في الأولى أنه يقوم بحراستها، أي: يحرسها الآن، أما الثانية فمعناها: أنه المكلفُ بحراستها، وإن لم يقم بحراستها الآن.

ومما يوضح ذلك أنك تقول: (حارسُ المدرسةِ ليس حارساً المدرسةَ)، و (سائقُ السيارةِ ليس فيها). وتقول: (هذا ضرَّابٌ الرؤوسَ)، فتلحظ فيه معنى الفعلية، وتقول: (هذا بيَّاعُ الفاكهةِ)، فتلحظ جانب الاسمية كما تقول: هذا راويةُ الشعرِ وعلَّامةُ النحوِ.

فدل ذلك على أن الإعمال له غرض، والإضافة لها غرض، وليس المقصود بها مجرد التخفيف؛ كما يذكر النحاة." انتهى. نقلناه منه بطوله لجزالته وتوضيحه للمعنى المراد.

ومن هذا الباب القصة التي جرت بين الإمام الكسائي، والقاضي أبي يوسف، بحضرة الخليفة الرشيد، فقد نفل المرزباني (284 هــ) في كتابه: "نور القبس" عن الإمام الكسائي قوله: اجتمعت أنا وأبو يوسف القاضي عند الرشيد، فجعل أبو يوسف يذم النحو ويقول: وما النحو؟ فأردت أن أعلمه فضل النحو، فقلت: ما تقول في رجلٍ قال لرجل: أنا قاتلُ غلامِك، وقال آخر: أنا قاتلٌ غلامَك، أيهما كنت تأخذ به؟ فقال آخذهما جميعاً، فقال الرشيد: أخطأت - وكان له علمٌ بالعربية - فاستحيى وقال: كيف ذلك؟ فقال: الذي يؤخذ بقتل الغلام هو الذي قال: أنا قاتلُ غلامِك بالإضافة، لأنه فعلٌ ماض، وأما الذي قال: أنا قاتلٌ غلامَك بالنصب فلا يؤخذ، لأنه مستقبل، لم يكن بعدُ، كما قال الله عزّ وجل: (ولا تقولنَّ لشيءٍ إني فاعلٌ ذلك غَداً إلا أنْ يشاءَ اللهُ)، ولولا أن المنوَّن مستقبلٌ، ما جاز فيه غداً. فكان أبو يوسف بعد ذلك يمدح النحو والعربية.

والله تعالى أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني