الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كم عدد أولاد نوح؟ وهل ركبت امرأته السفينة معه؟

السؤال

أورد المفسرون الكرام عند قوله تعالى: (ذرية من حملنا مع نوح) حديثين عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الحديث الأول: يقول: إن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أبناء نوح ثلاثة، وهم: حام، وسام، ويافث.
وفي الحديث الثاني: أخرج ابن مردويه عن عبد الله بن زيد الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذرية من حملنا مع نوح، قال: ما كان مع نوح إلا أربعة أولاد: حام، وسام، ويافث، وكوش، فذلك أربعة أولاد، انتسلوا هذا الخلف.
وبحثت في موقعكم الكريم وفي مواقع أخرى كثيرة؛ فلم أجد تخريج هذا الحديث الثاني؛ لنرى الحكم عليه من حيث السند ثم المتن، إلا أنني وجدت على موقعكم الكريم أن الحديث الأول ذكره الإمام أحمد -رحمه الله-، وقلتم بضعفه، ولكن وجدت بعض أهل العلم قد حسنوا الحديث الأول، وأما الثاني فلم أطلع على شيء في شرحه، أو تبيان سنده، ومدى صحته، فأي الحديثين صحيح؟ وأيهما يعتمد برفعه لحضرة النبي عليه الصلاة والسلام؟ فمن المستحيل أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام قد قال الحديثين؛ لأنهما متعارضان في المعنى من حيث عدد أبناء سيدنا نوح -عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام-، فأي الحديثين الحديث صحيح؟ ثم ماذا بشأن زوجة سيدنا نوح -عليه السلام-، فكلنا نعلم من خلال سياق آيات القرآن الكريم ومعانيها أنها كانت -والعياذ بالله تعالى- كافرة، وأنها أغرقت، ولم تكن فيمن ركب السفينة مع سيدنا نوح -عليه السلام-، فتفاجأت بأحد المفسرين يروي عن مجاهد، أو عن قتادة خلاف هذا، ويقول: إنها كانت مع نوح في السفينة، ولم يذكر دليلًا لقوله، ولم أستطع الاطلاع على حجة من قال بقوله. أفيدونا -أفادكم الله تعالى-.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فأما الحديث الأول، فهو المشهور، رواه الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ {الصافات:77}، قال: حام، وسام، ويافث. أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب، وأحمد، والروياني، والطبري. وضعفه الألباني، وشعيب الأرناؤوط. وذكر له ابن كثير في البداية والنهاية شاهدين ضعيفين عن عمران بن حصين، وعن أبي هريرة.

وأما الحديث الثاني فعزاه ابن الملقن في التوضيح لتفسير ابن مردويه. ولم يزد السيوطي في الدر المنثور في عزوه على ذلك! وكذاك من تبع السيوطي، كالشوكاني في فتح القدير، وصديق حسن خان في فتح البيان.

وتفسير ابن مردويه لم يطبع بعد، ويقال: إنه مفقود! ومع ذلك؛ فإن النسابين لا يذكرون لنوح إلا الأبناء الثلاثة المذكورين في حديث سمرة، قال القلقشندي في نهاية الأرب: قد وقع الاتفاق بين النسابين، والمؤرخين أن جميع الأمم الموجودة بعد نوح -عليه السلام-، جميعهم من بنيه، دون من كان معه في السفينة؛ وعليه يحمل قوله تعالى: {ذرية من حملنا مع نوح}. وأما من عدا بنيه ممن كان معه في السفينة، فقد روي: أنهم كانوا ثمانين رجلًا، وأنهم هلكوا عن آخرهم ولم يعقبوا. ثم اتفقوا أن جميع النسل من بنيه الثلاثة: يافث، وهو أكبرهم، وسام، وهو أوسطهم، وحام، وهو أصغرهم .... إذا علمت ذلك؛ فكل أمة من الأمم ترجع إلى واحد من أبناء نوح الثلاثة. اهـ.

وأما ما يتعلق بامرأة نوح، فما ذكره السائل هو الصحيح، فقد نص القرآن على كفرها، والسفينة لم يركبها إلا المؤمنون، كما قال تعالى: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40]، وقال سبحانه: وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ [المؤمنون:27]، قال ابن كثير: أي: من سبق عليه القول من الله بالهلاك، وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله، كابنه، وزوجته. اهـ.

وجاء في تفسير الجلالين: {إلا من سبق عليه القول منهم} بالإهلاك، وهو زوجته، وولده كنعان، بخلاف سام، وحام، ويافث، فحملهم وزوجاتهم ثلاثة. وفي سورة هود: {ومن آمن وما آمن معه إلا قليل}. اهـ. وكذا قال عامة المفسرين.

وقال ابن الجوزي في تذكرة الأريب في تفسير الغريب: وهم امرأته، وابنه كنعان. اهـ. وهذا مستند من نفى كون امرأته كانت معه في السفينة.

وقد روى الطبري في تفسير قوله تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ {الإسراء:3}، عن مجاهد قال: بنوه، ونساؤهم، ونوح، ولم تكن امرأته. اهـ.

ومن أهل العلم من نصّ على أن امرأته كانت معه في السفينة، كما روى الطبري في تفسيره عن قتادة في قوله تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ {الإسراء:3}، قال: بنوه ثلاثة، ونساؤهم، ونوح، وامرأته.

وقال ابن كثير في البداية والنهاية: قد قيل: إن نوحًا -عليه السلام- لم يولد له هؤلاء الثلاثة الأولاد: (سام، وحام، ويافث) إلا بعد الطوفان، وإنما ولد له قبل السفينة كنعان الذي غرق، وعابر مات قبل الطوفان. والصحيح أن أولاده الثلاثة كانوا معه في السفينة هم ونساؤهم، وأمهم، وهو نص التوراة. اهـ.

وكفر امرأة نوح المنصوص عليه في القرآن لا يخفى على أمثال هؤلاء! فلعلهم يقصدون أن نوحًا -عليه السلام- كانت له زوجة أخرى مسلمة؛ فقد ذكر بعضهم في سياق واحد هلاك امرأته، وأنه كان معه امرأته في السفينة، كما قال البغوي في تفسيره: {إلا من سبق عليه القول} بالهلاك، يعني امرأته واعلة، وابنه كنعان، {ومن آمن}، يعني: واحمل من آمن بك ... قال قتادة، وابن جريج، ومحمد بن كعب القرظي: لم يكن في السفينة إلا ثمانية، نوح، وامرأته، وثلاثة بنين له، ونساؤهم". اهـ.

وقد نص بعض المفسرين على أنه كان لنوح امرأة مسلمة، قال البيضاوي في أنوار التنزيل: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} بأنه من المغرقين، يريد ابنه كنعان، وأمه واعلة، فإنهما كانا كافرين. {وَمَنْ آمَنَ} والمؤمنين من غيرهم. {وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} قيل: كانوا تسعة وسبعين: زوجته المسلمة، وبنوه الثلاثة: سام، وحام، ويافث، ونساؤهم، واثنان وسبعون رجلًا وامرأة من غيرهم. اهـ. وكذا قال ابن عجيبة في البحر المديد.

وقال الخطيب الشربيني في السراج المنير: {إلا من سبق عليه القول} بأنه من المغرقين، وهو: ابنه كنعان، وأمّه واعلة، وكانا كافرين، حكم الله تعالى عليهما بالهلاك، بخلاف سام، وحام، ويافث، وزوجاتهم ثلاثة، وزوجته المسلمة. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني