الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حبس المتهمين بالفجور دون وجود أدلة

السؤال

هل يجوز القبض على المجرمين الذين اشتهروا بالفساد، وتجارة المخدرات، ولا يجود دليل على جريمتهم؟ أرجو الرد.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن المتهمين المعروفين بالفجور، والإجرام، والإفساد، يسوغ لولي الأمر حبسهم؛ حتى يتبين أمرهم، قال ابن تيمية: "دعاوى التهم" وهي دعوى الجناية، والأفعال المحرمة، مثل دعوى القتل، وقطع الطريق، والسرقة، والعدوان على الخلق بالضرب، وغيره، فهذا ينقسم المدعى عليه إلى "ثلاثة أقسام": فإن المتهم إما أن يكون ليس من أهل تلك التهمة، أو فاجرًا من أهل تلك التهمة، أو يكون مجهول الحال لا يعرف الحاكم حاله.

فإن كان برًّا، لم تجز عقوبته بالاتفاق. واختلفوا في عقوبة المتهم له.

"القسم الثاني": أن يكون المتهم مجهول الحال، لا يعرف ببر أو فجور: فهذا يحبس؛ حتى ينكشف حاله عند عامة علماء الإسلام، وقال الإمام أحمد: قد حبس النبي صلى الله عليه وسلم في تهمة، قال أحمد: وذلك حتى يتبين للحاكم أمره؛ وذلك لما رواه أبو داود في سننه، والخلال، وغيرهما عن بهز بن حكيم؛ عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة.

فإن "الحبس الشرعي" ليس هو السجن في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص، ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد، أو كان بتوكيل نفس الخصم، أو وكيل الخصم عليه.

ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر حبس معد لسجن الناس، ولكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر بن الخطاب، ابتاع بمكة دارًا، وجعلها سجنًا، وحبس فيها.

القسم "الثالث": أن يكون المتهم معروفًا بالفجور: مثل المتهم بالسرقة، إذا كان معروفًا بها قبل ذلك، والمتهم بقطع طريق، إذا كان معروفًا به، والمتهم بالقتل، أو كان أحد هؤلاء معروفًا بما يقتضي ذلك. فإذا جاز حبس المجهول، فحبس المعروف بالفجور أولى.

وما علمت أحدًا من أئمة المسلمين المتبعين من قال: إن المدعى عليه في جميع هذه الدعاوى يحلف، ويرسل بلا حبس، ولا غيره من جميع ولاة الأمور؛ فليس هذا على إطلاقه مذهب أحد من الأئمة. ومن زعم أن هذا على إطلاقه وعمومه هو الشرع، فهو غالط غلطًا فاحشًا، مخالفًا لنصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولإجماع الأمة. وبمثل هذا الغلط الفاحش استجرأ الولاة على مخالفة الشرع، وتوهموا أن مجرد الشرع لا يقوم بسياسة العالم، وبمصالح الأمة، واعتدوا حدود الله في ذلك. وتولد من جهل الفريقين بحقيقة الشرع، خروج الناس عنه إلى أنواع من البدع السياسية.

وأما الامتحان بالضرب، ونحوه، فاختلف فيه هل يشرع للقاضي والوالي؟ أم يشرع للوالي دون القاضي؟ أم لا يشرع الضرب لواحد منهما؟ على "ثلاثة أقوال". اهـ. باختصار من مجموع الفتاوى.

وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: استدل لمشروعية حبس التهمة -هو: تعويق ذي الريبة عن التصرف بنفسه؛ حتى يبين أمره- بقوله تعالى فيمن اتهم بعدم القيام بالحق: {تحبسونهما من بعد الصلاة}، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم حبس أحد الغفاريين بتهمة سرقة بعيرين، ثم أطلقه. وروي عن علي -رضي الله عنه- أنه حبس متهمين حتى أقروا.
وذهب جمهور الفقهاء إلى مشروعية حبس التهمة. واعتبروه من السياسة العادلة، إذا تأيدت التهمة بقرينة قوية، أو ظهرت أمارات الريبة على المتهم، أو عرف بالفجور، من مثل ما وقع لابن أبي الحقيق حين أخفى كنزًا يوم خيبر، وادّعى ذهابه بالنفقة، فحبسه النبي صلى الله عليه وسلم، ورد عليه بقوله: العهد قريب، والمال أكثر. فكان ذلك قرينة على كذبه، ثم أمر الزبير أن يمسه بعذاب؛ حتى ظهر الكنز.
- وقد فصل القائلون بحبس التهمة ما يتعلق به من أحكام، فذكروا: أنه تختلف أحكام حبس المتهم باختلاف حاله، فإذا لم يكن من أهل تلك التهمة، ولم تقم قرينة صالحة على اتهامه، فلا يجوز حبسه ولا عقوبته اتفاقًا.

وإن كان المتهم مجهول الحال، لا يعرف ببر ولا فجور، فهذا يحبس حتى ينكشف حاله، عند جمهور الفقهاء.

وإن كان المتهم معروفًا بالفجور، والسرقة، والقتل، ونحو ذلك، جاز حبسه، بل هو أولى ممن قبله.

وذهب القاضي شريح، وأبو يوسف، وإمام الحرمين إلى منع الحبس بتهمة، إلا ببينة تامة، وروي أن شريحًا استحلف متهمًا -بأخذ مال رجل غني مات في سفر- وخلى سبيله.

فإذا اضطر القاضي إلى بعض الحالات: يأخذ من المدعى عليه كفيلًا؛ ليمكنه إحضاره.

وذكر إمام الحرمين: أن الشرع لا يرخص في معاقبة أصحاب التهم قبل إلمامهم بالسيئات. وروي أن عمر رفض أن يؤتى بمتهم مصفد بغير بينة. اهـ. باختصار.

وفيها أيًضا: التعزير بالتهمة:

لا خلاف بين الفقهاء في أن الحدود لا تقام بالتهمة.

أما التعزير بالتهمة، فقد ذهب الحنفية، والمالكية إلى أن للقاضي، أو الوالي تعزير المتهم، إذا قامت قرينة على أنه ارتكب محظورًا، ولم يكتمل نصاب الحجة. أو استفاض عنه أنه يعيث في الأرض فسادًا.

وقالوا: إن المتهم بذلك إن كان معروفًا بالبر والتقوى، فلا يجوز تعزيره، بل يعزر متهمه. وإن كان مجهول الحال، فيحبس حتى ينكشف أمره.

وإن كان معروفًا بالفجور، فيعزر بالضرب حتى يقر، أو بالحبس. وقالوا: وهو الذي يسع الناس، وعليه العمل. اهـ.

وفي فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: تبين أن المذكور من ذوي السوابق، وأن هناك عدة قرائن توجه التهمة إليه، ولكنه صعب المراس، فلم تجد به تلك التحقيقات شيئًا، بل أصرّ على إنكاره، وأن القاضي قرر بقاءه في السجن حتى يعترف.

فالذي نراه نظرًا لقوة التهمة والقرائن الموافقة على ما قرره القاضي من لزوم بقائه في السجن حتى تتضح الحقيقة، وأن يمسّ بشيء من الضرب، والتعزير؛ رجاء أن يقر. اهـ.

وفيه أيضًا: ولكن حيث إن بيع الحشيش فيه ضرر كبير متعدّ إلى الغير؛ لما فيه من إفساد الأخلاق؛ فإن مثل هذا المتهم إذا كان من المعروفين بالشر والفسق؛ فإنه ينبغي تعزيره بما يراه ولي الأمر، ولو لم تثبت إدانته. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني